اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

المتاجرون بمآسي العراق وأقلياته

لويس اقليمس

الجزء الثاني

 

   26 نيسان 2015

 

   طعناتُ في خاصرة الوطن

   في صفحتها الأخيرة، تكاثرت طعناتُ الأصدقاء من دول الجوار والأصدقاء التقليديين. كما تزايدت أطماعُ الغرب بخاصة، وعلى رأسهم، زعيمة الشرّ أميركا ومَن يدورُ في فلكِها. فقد خبرنا أنواعًا منالكوارث والمآسي وفترات احتضار، وهي تُعدّ الأشرس تمامًا في تاريخ العراق والمنطقة. هذه الصفحة قد انجلت خفاياها وانكشفت فيها الكثير من أسرار وألغازٍ كانت ما تزالُ مشكوكًا فيها حتى وقتٍ قريبٍ. وقد كانت هذه محفوظة في خلايا وأمخاخ وثنايا الّلاعبين الكبار الذين تعوّدوا لوكَ مصالح ومصير الشعوب المستضعفة التي لا حولَ لها ولا قوّة ولا تعرف ثقافة حمل السلاح، حتى لو اعتُدي عليها. وتلكم الحالة، لم تعد تنفع ولا تصلح، كما يبدو في هذه الأيام المريرة حيث عوادي الدهر تضرب بأمثال هذه الشعوب البائسة من كلّ حدبٍ وصوب وتوجّه سهامَها الخبيثة يمنةً ويسرةً، دون وازع من ضميرٍ ولا خجلٍ من غياب الأخلاق الوطنية والاجتماعية والإنسانية وما تتطلبُه دواعي الجيرة والتاريخ والجغرافية بل والحضارة والإنسانية معها.

   شهدنا في الصفحة الأولى، كيفَ أنَّ أتباعُ الشعوب الصغيرة يُقتلون ويُخطفون ويُشرَّدون في الداخل والخارج، وفي أخرى تُدمَّر منازلُهم وتُغتصبُ وتُباعُ فتياتُهم ونساؤُهم، وفي ثالثة تسكبُ عليهم دموع التماسيح ويُهانون بمساعدات يتهافتون عليها اضطرارًا، كمَن يستجيرُ بالرمضاء ولا حولَ له ولا قوّة بعد فقدان كلّ شيء!

   بلدٌ مثل العراق، ذو الأصالة والجذور الحضارية والقيم الرجولية والثروات العديدة، بجدُ الشعبُ فيه نفسَه في زمن العولمة مطرودًا خارج المجتمع الدولي الشبه صامت على مآسيه، ومبتليًا بساسة فئويّين وحكومات طائفية تزيد من قساوة الظروف عليه. وآخرُها يجدُ نفسًه مضروبًا ومهدَّدًا بكيانٍ مسخٍ دفعَ شعبَه الآمن لافتراش الأرض القاحلة وأرصفة الشوارع واتخاذ الساحات العامة والحدائق والقاعات والكنائس والمعابد والهياكل مآوي بديلة لمساكنه الهادئة. ما أقسى هذه الحالة وما أشدَّها لمَن تعوّد حبَّ الوطن وغرسَه في طيّات قلبِه ونفسِه، وعلّمَها لأجيالٍ تناقلتها تراثًا وهدايةً ودليلًا!

   لقد غيّرت العولمة القلوب الطيبة للعديد من الناس، وكسرت حبكةَ النسيج الاجتماعيّ الأسري والمجتمعيّ على السواء. ولم يعد لهذا الأخير مكانٌ في دولة المواطنة بعد اختفائه من قواميس الشعوب التقليدية، بل حتى في وسط العشيرة والأسرة الواحدة، إلاّ ما ندر! وبعد أن كانت البلاد تعيش حالة فسيفسائية متكافلة نسبيًا بفعل تعايش قوميات وأديان وإتنيات متعددة تتفاخر بوحدتها ورصانتها ومحبتها وتكاتفها التقليديّ المعروف وتصدحُ وتتفاخر بتنوّعها الثقافي والديني والتراثي، أصبحت اليوم تئنّ من جراحات مثخنة، بعد طعنها من الداخل أولاً، بدءًا بصعود أو قدوم طبقة حاكمة باعت ما للوطن والمواطن لصالح العشيرة والعائلة والزعيم والحزب والكتلة التي ينتمي إليها والدولة التي يعملُ لصالحِها. ثمّ جاءت الطعنة الخارجية التي كانت بحق صفعةً ثقيلة ألقت بظلالها على كلّ مفاصل الحياة وأثرت في أخلاق البشر، حينما جعلت شراذمَ من عصابات مسلّحة خارجية غريبة ومن ميليشيات أحزابٍ تتسيدّ المشهد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، تصولُ وتجولُ تحت مسميات مرعبة، بلا خجل ولا وجل.

   عندما غادر، أو بالأحرى عندما أُرغم عهد الدكتاتورية القائم لغاية 2003 على المغادرة بتلك الطريقة المأساوية بسبب إشكالياتِه العديدة ضدَّ شعبِه وطموحاتِ هذا الأخير المشروعة بحياة أفضل وبحرّية أكثر، لم يكنْ يدور في خاطر أحد أن يذرف دموع الندم أو يجرّ الحسرات لاحقًا، لأنّ عهدًا بالأفضل كان موعودًا. لكنّ الأيام، توالت ودارَ الزمن وكشفت نوايا ذلك التغيير يومًا بعد آخر، لترشدَنا إلى حقيقة مفادُها، أنَّ الأمس أفضلُ دومًا من القادم من الأيام، واليومَ هو الأفضل من الغد والغدَ بالتأكيد سيكون الأفضل من الأمس واليوم. والسبب بسيط، وذلك لأنَّ المعايير والمقاييس في العراق تسيرُ عكس التيار المعمول به في دول العالم. هذه حقيقة، طالمَا أن البلد فقد أهمّ سرّ وجودِه وصمّامَ الأمان لكيانِه وفاعليّةَ قوّته، وهي الحرص على وحدة الأرض والصفّ ولازمة الولاء للوطن والمواطنية.

   العقلاءُ اليوم، لا يبكون على النظام البائد، ولكنّهم يستذكرون بشيءٍ من الأنفة، رأسَ الدولة الأسبق، وقد كانَ صمّامَ أمانِ تلك الوحدة ورفعةَ الوطن الشامخ الذي لم يكن لينكسر إلاّ بسبب الحماقات المرتكبة من قبله ومَن حولَه من المنتفعين غير الحريصين، والمتورطين في حروبِ متواترة قصمت ظهرَ الوطن وأدخلتْهُ دوّامة العنف والقتل والعسكرة والخطف، وعلّمته أشكال الطائفية وصَولات الميليشيات التي لا حصرَ لها وهي تصولُ وتجول وتتفاقم وتتكاثرُ كالأميبا. فكوارث اليوم نتاجُ تلك الحماقات!

   تصيّدٌ في الماء العكر

   إنَّ ما نعانيه اليوم، دون شكّ، جزءٌ من إرث النظام البائد الذي إليه يعود كلُّ ما يحلُّ بهذا الشعب غير المستكين الذي لم يخلُ عقدٌ فيه من حروبٍ ودسائس وفظائع منذ تاريخ تأسيس الدولة العراقية ولغاية الساعة. ولكن، لقد كان الأجدر بمَن أمضى سنوات هجرِه وغيابه عن الوطن هاربًا من بطش ذلك النظام، أن يرعوي من النتائج المأساوية التي حلّت بالأمّة العراقية من دون تمييز للقريب والبعيد، بعد أن طال ظلمُ النظام السابق جميع الشرائح حينذاك، وليسَ ما يعتقدُه البعض استهدافَه طائفةً أو شريحةً محدَّدة. ففي هذا تجافٍ للحقيقة. حتى مَن كانت تشملُه الامتيازات لم يكن في مأمنٍ من غدر القرش الأسود وأعوانه. إثناعشرَ عامًا سوف تمضي منذ السقوط الدراماتيكيّ، والعراقيون يتأملون بتلك الوعود المقطوعة لهم مرارًا وتكرارًا بحالٍ أفضل، والتي لم ترى النور أبدًا.كما لم يشهد البلد تطورًا إيجابيًا أو خيرًا، بل كلُّ ما حصدَهُ حصدَ مآسٍ وآلامًا وجراحاتٍ تزداد ثخنًا وعمقًا وعددًا.

   مقابل كلّ هذا، يطلعُ علينا بين الفينة والأخرى، مَن يتصيّدُ بالماء العكر وينزل إلى الساحة بطلاً وطنيًا وقوميًا، وجلُّ ما يجيدُه كياسة الكلام ولباقة التفنّن في مخرجات الحديث واللّف والدوران في تبرير المستباح والتستّر على الفساد. والمؤسف، هناك مَن مازال يصدّق أمثال هؤلاء الأبطال الذين لا وجود لهم إلاّ في أفلام الكارتون وبلاد الواق واق منزوعة السلاح، ربّما. عجبي على مَن يقبل لنفسه أن يتاجر بمآسي الشعوب ويرقص على أنغام أوتار الحزن الذي تئنّ تحته شعوبٌ لم تعرف غيرَ الأصالة في الحضارة والشراكة في الوطن والمحبة في التعايش. وسواءً حسبنا أنفسَنا من أتباع حكومة المركز أو إقليم كردستان، فالحالُ سيّان. فالطرفان يستغلاّن اوضاعَ النازحين اليوم كلٌّ لصالحه. فحكومة المركز تتفاعلُ إعلاميًا مع دعوات عالمية بضرورة الدفاع عن أتباع الأقليات وحمايتهم بكونهم شعوبًا أصيلة، وأنّ العراق لا يستقيم بغير أقلياته ولاسيّما المسيحيّين منهم. فيما حكومة الإقليم تتبجّحُ أمام الملأ بكونها ملاذَ الجميع. وهي اليوم، تنتفع من حالتهم الكارثية الراهنة، وقد تورطت هي الأخرى بالاشتراك فعليًّا في وصول أبناء سهل نينوى إلى ما وصلوا إليه من فقدان ملاذاتهم الآمنة وممتلكاتهم وأعمالهم ومصالحهم، حينما غدرت بهم قوات البيشمركة المحتلة لمناطقهم ونكثوا عهدَ الدفاعِ عنهم. وقد أجادت قيادةُ الإقليم الاستفادة من الكارثة لصالِحها باستدرار عطف صاحبة الجلالة ذات القطب الواحد، أميركا، ومعها الغرب التابع لها بسياستهم المنحازة للإقليم حصرًا في كلّ الشؤون. أمّا لماذا؟ فالسؤال جوابُه عند أصحاب الشأن، وسيبقى مرهونًا خلف الكواليس لحين قدوم الفرَج ونصوح العقل وعودة الضمير إلى رؤوس تجار الشعوب.

   أليس حالُ هذه الأقليات ومآلُها ضربةً قاتلة، كما قالَها البطريرك ساكو في لقائه رئيس جمهورية العراق للتهنئة بالمنصب الجديد؟

   أمّا مَن تحجّج، سواءً من الحكومة المركزية أو الإقليم، بأنّ ما حصلَ كانَخارجًاعنإمكانياتحكومة المركز أوكردستان، فهذا مردودٌ عليه وغيرُ مقبول. فالدولة أوالمحتلّ، أيًا كان داخليًا أو خارجيًا، تقعُ عليه مسؤولية حماية المنطقة التي يحتلّها، وعليه الدفاعَ عنها حتّى لو كلّفَهُ ذلك خسائر. فهذا واجبُ العسكر وتلكُم عقيدة الجيوش للدفاع والذود عن المناطق التي تمسكُها أو تحتلّها. فلو لم تكن تصرّفات الطرفين التوافقية والتجاذب السياسيّ وخلافات المصالح هي السبب، لما حصَلَ كلُّ هذا الخراب والدمار، ولما آلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم من فناء واحتضار وتراجع.

   الأمل قائم

  !ّ يُؤخذ على الباباوية التزامَها الصمت خلالالحربالعالميةالثانية، مثلاً.فيما نشهدُ اليوم، نشاطًا ومواقفَ مشرّفة من قبل بابا الفاتيكان الذي حشّد المجتمع الدوليّ للقيام بدوره الأخلاقيّ والإنسانيّ إزاء الإبادة الجماعية التي تعرّض وما زال يتعرّضُ لها أبناء الأقليات في العراق، ولاسيّما المسيحيين منهم والإيزيديين الذين اقتُلعوا من جذورِهم في مناطق تواجدهم الأصلية. فقد ناشد البابا فرنسيس في مناسبات عديدة، المجتمع الدوليّ وحثّ الزعماء والرؤساء ورؤساء الحكومات والمسؤولين الروحيين والمدنيين لإيجاد حلول أخلاقية لملايين المهجّرين والنازحين كي يعودوا إلى ديارهم في أسرع وقت. هذه الضغوط السياسية، كان لها وقعُها الخاص والقويّ في أروقة المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة والبلدان الكبرى، بالضغط عليها لتوفير ملاذ مؤقت وآمنٍ للمهجرين عبر مساعداتإنسانية عاجلة، ماتزال متواصلة من جانبِه، بحيث شملت الجميع دون تمييز.كما استغلّ الكرسي الرسوليّ قدراته الروحية وتأثيره على المنابر الدولية التي تشكلُ قوة وقدرة كبيرة على تغيير سياسة العالم، ملمّحًا بأمل قادم وبرجاء معقود لذوي الإيمان. فالله لا ينسى خليقتَه تُهانُ بهذه الشاكلة. إذ لا بدّ لليلِ أن ينجلي وللقيد أن ينكسر وللضمير أن يستفيق وللعقلِ أن يتّزن. وبالتالي أن يحتكم الإنسان لمنطق العدل والخير والمساواة.

   قد يكون لتشكيل التحالف الدولي الذي تعهدَ بمواجهة الإرهاب وعصابات القتل باسم الدّين، نتيجة لضغوط الفاتيكان ومعه المرجعيات الدينية المعتدلة من ديانات أخرى، بحسب بعض المراجع والتسريبات السياسية والصحفية. وهذا صحيحٌ وطبيعيٌّ، بل واجبُ الإجراء. فحينما تفشل السياسة في احترام آدمية الخليقة، يتوجب على الرئاسات الدينية أن تكون المبادرة والضاغطة لحثّ الساسة على احترام شرعة حقوق الإنسان والتذكير بواجباتهم تجاه المواطنين والمرؤوسين. عسى أن يحقّق التحالف الدولي، رغبةَ ذوي النوايا الطيبة والساعين إلى سلام البشرية وتنميتِها وسعادتِها، ويساهم عاجلاً بعودة النازحين والمهجَّرين والبائسين إلى ديارهم، كي يكونَ ذلك طعنةً في خاصرة تجّار الشعوب الذين سوف تكشفهم الأيام ويلعنهم التاريخ. فقد تمادى أمثالُ هؤلاء وتلاعبوا بمقدّرات الشعوب من أجل تحقيق مصالحهم الفئوية والشخصية الضيقة، بالرغم من الشكوك التي تحوم حول الثمن المطلوب لهذا التحالف! فالمجتمع الدوليّ، لا بدّ أن يتحمّل مسؤولياته، لا أن يقف متفرّجًا على المآسي والكوارث وأعمال القتل والترويع والإرهاب واستمرار سبي النساء وسلب آدميتهنّ وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ.

   من هنا، تأتي المطالبة الملحة في المؤتمرات الأخيرة المنعقدة دوليًا وإقليميًّا وداخليًا، لتصبّ في منطق استحداث منطقة آمنة لشعوب سهل نينوى المنكوبة، تحت رعاية دولية حتى استتباب الأمن فيها والتحقّق من قدرتها على العيش بسلام وأمان في ظلّ وطنٍ واحد يحفظ أرضَه وسماءَه وماءَه من كيد الأعداء وفق القانون الذي يرسي دعائم المواطنة والمساواة والعدل. وهذه الأمنية، لن تكون قابلة التحقيق، إنْ لمْ تكن مناطقُ هذا السهل مستقلّةً تمامًا ومتحرّرةً عن مطامع الجيران المحيطين به. مثلُ هذا المنطق في الطرح ينطبقُ بطبيعة الحال، على المكّون المسيحي والإيزيدي والتركمانيّ والشبكي وغيرِهم في مناطق الحمدانيةوسنجار وتلّعفر ذات الخصوصيات الإتنية والدينية.

   حينها فقط، ستحافظ هذه الشعوب على جذورها وتعاند من أجل البقاء في أرض الآباء والأجداد. كما سيكون هذا من داعية المساهمة في منع نزيف الهجرة المتصاعد بالرغم من سلبياته القائمة على هوية وكيان ومصير هذه الشعوب المضطهَدة. ونحنُ نعلم أن الجذور حينما تٌقتلَعُ من موقعها، يصعبُ إنباتُها كما كانت عليه في موقعها الأصليّ وأرضها الثرية وترابها الغنيّ بالمآثر والحضارة والخيرات والقِيم.

 

 

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة