اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

تحديات الهوية المسيحية:

بين النشوة في الآشورية والنزعة إلى الكلدانية والعثرة في السريانية

لويس إقليمس

(الجزء الثاني)

 

 26 شباط 2015

   خلافاتٌ تساهم في دوّامة مأساة الشعب المسيحيّ

   في مأساة الشعب العراقي، المبتلى اليوم كغيرِه بالتنظيم التكفيري الداعشيّ، وبسبب بطء تقويم فساد الإدارة وعدم تخلّي الساسة عن مصالحِهم الفئوية الضيقة وطموحاتِهم الحزبية الخاصة، ونظرًا للنتائج السلبية للمحاصصة الطائفية المنبوذة،لم تخلو صفوفُ المكوّن المسيحيّ من جهاتٍ ادّعت الحرصَ والتفاني والتضحية والخدمة من أجلِه ولصالحِه. وكلَّ يومٍ، يخرجُ البعض من الكتاب أو أصحاب المداخلات الركيكة بتسريبات وتصريحات وكتابات، موقعة بأسماء معروفة أو مستعارة، تصبُّ بعضها في خانة التعصّب والانكفائية وغيرُها مجاملة على حساب الوطن الواحد من دون حسابٍ دقيقٍ لنتائج مثل هذه السلوكيات الناشزة. وهذه تتراوح بين النشوة والنزعة والعثرة في تحديد سقف الهوية المسيحية لهذه الجماعة او تلك، على حساب تثبيتِ حقوق أتباعِها وأصالتِهم وبقائِهم ضمن كنف الوطن الأمّ، متناسين وجودَ غيرهم من أتباع كنائس أخرى يتمّ التغافل عنها وتجاهلُها، إنْ عمدًا أو تغافلاً أو جهلاً. والغريب أنّ مَن يحشرُ نفسَه حتى العمق في مثل هذه السجالات العميقة والسقيمة أحيانًا، همْ في الأغلب من الإخوة الذين هجروا الوطن والأهل والقرية والأصدقاء إلى بلدان المجاهيل الواسعة. لكنَّ الحنين يقودُهم دومًا للوطن ولحكايات الأمس وحفلات القرية (الشيرا) ونواقيس الكنائس وما إليها من ذكريات تبكي لها القلوب وترتخي لها النفوس لأنها أصبحت من الماضي، ولن تعود! وعلى هؤلاء الإخوة، أن يتيقنوا أنَّ ترتيبات الحياة خارج أرض الوطن، ليست كالتي عاشها ويعيشُها الباقون في كنف أمّ حنون وراعٍ غيور وعينٍ ساهرة، بالرغم من تخبطات الساسة وضئالة حرصهم على الوطن والمواطن.

   مرةً أخرى، ففي الشأن المسيحيّ، الدينيّ منه و"القوميّ" حصرًا، تتبنّى جهات حزبية "مسيحية" وأقلامٌ "قوميّة"، خطًّا مطّردًا للتذكير بالأمّة "الآشورية" والحضارة "الآشورية" الساقطة عن الزمن والمكان منذ آلاف السنين. وهذا النفر المعاند يصرُّ إلحاحًا ويلحُّ إصرارًا على انتماء جميع المسيحيين إلى الجذر الآشوريّ، بالرغم من إثبات الباحثين من انحدار عموم أبناء المنطقة من جميع أسلاف الحضارات البائدة، ومنها أيضًا انحدارُ بعضِهم من أصولٍ عربية ومن قبائل عريقة مثل تغلب وكندة وطيّ وما سواها، كما كان يرى مثلث الرحمة مار إغناطيوس زكا عيواص، بطريرك السريان الأرثوذكس في العراق والعالم، وغيرُه ممّن عاصروه وشاركوه ذات الرأي، وبعضٌ منهم مازالوا على قيد الحياة. وبالرغم، من عدم اتفاقي تمامًا من التعميم الذي كان صدرَ عن البطريرك زكّا عيواص وعن غيرِه بهذا الشأن، بسبب مغالطةٍ بشأن نَسَب جميع المسيحيين في العراق وسوريا ولبنان وما في جوارها إلى الأصل العربي في لحظةٍ طارئة، كما نشرته جريدة النهار اللبنانية في 12 حزيران 2005 عندما قال: "فنحن شعب عربي واحد، دمُ العروبة يجري في عروقنا، فلنوطّد الوحدة الوطنية في الوطن العربي كله، لنرفع راية العروبة عالياً". فمثل هذا التصريح وبهذا الجزم، لم يكن موفقًا واحتاج إلى تفنيد ومرا جعة بسبب ظرف الحدث الذي خرج فيه مثل هذا الكلام الخطير آنذاك. وكانت الفرصة أنْ استعاد البطريرك الراحل زكّا، ذاكرةَ التاريخ وتنبّه لتلك المغالطة في رأي لاحق في مؤتمر التراث السرياني التاسع، الذي أقيم في مكتبة الأسد بدمشق من 13-15نيسان 2004، برعاية الرهبنة المارونية اللبنانية، وبحضور نخبة من الباحثين والمهتمين بالتراث والثقافة السريانية، من مختلف أنحاء العالم، عندما همّ بالقول:"نحن السريان نفتخر بأننا أحفاد أولئك الذين وهبوا العالم الأبجدية وشقوا الطريق إلى الحضارات والعلوم". وبتأكيدِه أيضًا ضمن البيان الصادر بخصوص شؤون الناطقين بالسريانية في العراق في 1973: "إن الناطقين بالسريانية الآشوريين، من آثوريين وكلدان وسريان يمثلون القومية التي انحدرت من الآشوريين القدامى وذلك من نواحي الأصل واللغة والتاريخ والتراث الحضاري."

   مثل هذين التصريحين الأخيرين الموفَّقين بعض الشيء والموضوعيّين من قائدٍ دينيّ وتاريخي وباحث مثابر لهُ وزنُه على الساحة الدينية والثقافية وفي محفل ثقافيّ وفكريّ، بالرغم من خلطِه المسمّيات إن تجميلاً أو مجاملةً، إلاّ أنّه كان كافيًا لتأكيد الهوية الحقيقية "السريانية" لجميع المسيحيين في المنطقة، وليسَ للآثوريين وحدهم الذين يدّعون الانتسابَ للآشورية هويةً حديثةً فحسب. فإلى جانب هذ الكيانات الثلاث، هناك غيرُهم ممّن يعتقدون بحقّهم أن يكونوا جزءًا من المنظومة المسيحية الوطنية ومن المكوّن المسيحي الوطنيّ، والتي لا يختلف عليها المثقفون الواعون والباحثون الثقات وأصحاب النظرة الرفيعة في قراءة التاريخ.

   بالضدّ، هناك مِن الكتاب المسيحيين، مَن يتردّد ويتذبذب في تحديد هذه الهوية أو تلك، كما هو الحال مع واحدٍ من الكتاب الآثوريين المرموقين سليمان يوسف السوري، إذ يقول في إحدى مقالاتِه: "فقد توالت على السريان (الآشوريين)، منذ سقوط آخر كيانهم السياسي 612 ق.م في بلاد ما بين النهرين، حكومات و شعوب وجيوش عديدة لها لغاتها وثقافتها المختلفة، غزت بلاد السريان (الآشوريين) واستعمرتها لقرون طويلة، وهذا يفسر حالة التنوع الثقافي واللغوي والديني التي نجدها اليوم لدى (السريان)، حيث توجد مجموعات سريانية/كلدانية/آشورية، تتحدث العربية وأخرى تتحدث التركية ومجموعات تتحدث الفارسية وأخرى تتحدث الكردية، وهكذا بحسب توزعها الديمغرافي، مع احتفاظ أغلبية الآشوريين (سريان/كلدان) بلغتهم القومية الأم الواحدة وهي (السريانية)، كما هناك الكثير من السريان (الآشوريين) اعتنقوا الاسلام، إبان (الحكم الاسلامي) للمنطقة ذابوا وانصهروا كلياً في الشعوب والقوميات الإسلامية". مثل هذا الكلام غير الدقيق والقافز من مسمّى لآخر، سواءً بعفوية أو بعدم إلمام أو بعدم تركيز، لا يساهمُ في تحديد الرؤية ومعرفة حقائق التاريخ والجغرافيا.

   فيما آخرون من أترابِه، يوغلون في نسب أصل جميع المسيحيين إلى الآشورية، وهم يقصدون أتباع الكنيسة المشرقية القديمة أي المعروفين بالآثوريين حصرًا، ويحاولون فرضَها على غيرِهم وإيهامِ محدّثيهِم من الغرب وأبناء بلدان الاغتراب بخاصّة، بأنّ كلَّ شأنٍ مسيحيٍّ قائمٍ حاليًا، يعودُ في أصلِه إلى الآشورية وإلى الآشوريين القدامى، وهم مَن يتولون تمثيلَها اليوم. ففي أية مناسبة، هُؤلاء يبرزون ويثيرون أمام المحافل الدولية ما يُسمّى بالقضية الآشورية، مختزلين الهوية المسيحية والوجود المسيحي بلفظة الآشورية التي يريددون فرضَها هويةً قومية على غيرِهم من أتباع المسيحية. ومثلُ هذا الكلامٌ المثير للجدلٍ لا يستقيمٍ مع حرية الرأي والتعبير والفحص والتدقيق. فهناك مَن لا يشكّلُ فرعًا أو جزءًا من هذا التعميم غير الدقيق. فكلُّ طرفٍ يميل بطبعِه، في استشهادِه بحقائق وأدلّة تثبت رأيَه وتوجّهَهُ وأجندتَه.

   وعودة سريعة لمراجعة ما أوردَه العديد من جهابذة السريان بشأن اللغة والتسمية، يمكن تصفّحُ ما أوردَه عبديشوع الصوباوي مثلاً، في مقدّمة مؤلّفه المشهور "فردوس عدن"، بشأن ذكر اللغة السريانية. ومثلُه ما جاءَ في قاموس المطران توما أودو الذي يشير في عنوانِه إلى اللغة السريانية هو الآخر، وكذلك كتاب إقليمس يوسف داود في كتابه " اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية "، وآخرون يشيرون إلى ذات التسمية في توصيف لغة مسيحيي الشرق، وليسَ اللغة ألآشورية أو الكلدانية التي يحاول البعض لصقَها من غير استنادٍ إلى أصول انتساب الشعوب تاريخيًا وحضاريًا إلى لغة النطق والحديث والكتابة والشعر. وإنّه لَمِنَ النتيجة المقنعة أن يتسمّى الشعب المسيحي المشرقيّ "سريانًا" أيضًا. حتى المحدَّثون منّا، لولا النعرة الطائفية والتعصّب العقائديّ، لاختاروا الهوية "السريانية" وما في معناها "سورايي" مقترَحًا وسطيًا، تلافيًا لدوام الانقسام في الكلمة وفقدان سرّ الخطاب الموحّد في المطالب والعيش والمواطنية.

   لا نريد أن تصل الحالة إلى طريق مسدود من فقدان الأمل والرجاء، كي لا نتجاوز عتبةَ فقدان الإيمان أيضًا، بسبب سجالات عقيمة ونقاشات غير مجدية، ماتزالُ جارية ومثارة بين الفينة والفينة، في مَن هو الأحقّ أو الأصل أو الأصحّ ؟؟؟ فبفقدان كلّ هذه، حينئذٍ لا الهوية القومية تنجع، ولا التسمية الفلانية تشفع، ولا الترنيمة الحزبية لهذه الجهة تنفع. فهذه جميعًا، لن تكون بعدُ في مأمن، ولا المسيحية سيبقى لها من أصولٍ وحضورٍ مشرقيّ تُطربُ وتطوّر وتخمِّر. فالملحُ ماضٍ للفساد بفعل التقادم وفقدان الغيرة والّلهاث وراء فتات الأسياد. كما أنَّ الخميرة ستفقدُ مفعولَها وتأثيرَها، هذا إنْ لمْ تكن قد فقدته هي الأخرى فعلاً، بسبب تراكم الأخطاء وتناحر تيارات التبعية والولاء الفارغة لهذه أو تلك من الجهات القاهرة.

   كما أنّ تسليم الأمر للغير المقتدر، كواقع حالٍ مفروضٍ، بدل البحث عن مخرَج وطنيّ أمينٍ مستقلّ لحالة الضعف والفوضى والاختلاف في التصوّر والرؤية والحكمة في التصرّف، سينقلبُ وباءً على الجميع، كما هي حالُنا اليوم. لذا، لا خيارَ لدينا سوى بوحدة الصفّ واتفاق الرأي حول أولوية "الهوية المسيحية" في الفترة القائمة من أجل فرض المطالب أمام الحكومة المركزية كما فعلَ غيرُنا ونالوا مبتغاهُم.

   ألنشوة في الآشورية والنزعة إلى الكلدانية من المعوّقات

   كلُّ الشعوب لها ماضٍ وحاضر وسيكون لها مستقبل، قد يختلف عن الحاضر والماضي بالتأكيد. فقهرُ الزمن ومتاعبُه وأسرارُه، لا أحدَ يعلمها غيبًا ولا نبوءةً. فما من شعبٍ صافٍ خالصٍ في أصلِه وفي جذورِه ورواسبِه، لأنّ دائرة الزمن لا تترك حجرًا على حجر، ولا بيتًا على بيتٍ، ولا حضارةً على حضارة ولا ثقافةً على ثقافة من دون تغيير وتفعيلٍ وتحويلٍ.

   أليوم، المنتشون من دعاة الآشورية، لو ركنوا إلى العقل والحكمة والرويّة، ومعهم متعصّبو الكلدانية بسبب السجالات المتواصلة فيما بينهم، وخاصة في هذه الأوقات الحرجة من تاريخ شعبٍ مسيحي مهدَّدٍ بكاملِ هويتِه ووجودِهِ في أكثر مناطق العراق كثافةً وتواجدًا كنسيًا، وأخصّ في هذا مدينة الموصل وسهلِها المثخَن بالأوجاع، لأيقنوا أنَّ بذور الحقد بين الطرفين والمشاحنات القائمة على قدمٍ وساق ٍعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ والردود المحمومة على المواقع الالكترونية، لمْ تعدْ تُؤكِلُ خبزًا أمام التيار الجارف الذي يستهدف اليومَ مصيرَ وحياة بني شعبِهم والهوية "القومية" التي يتعصّبون لها، ومعها الدينية معًا. فأين الحرصُ في كلّ هذا وذاك؟ وأينَ الثقافة في هذا وذاك؟ وأينَ المحبة المسيحية في تخوين الآخر والانتقاص من وجودِه ومحاولة محوِه وطمس كيانِهِ بدون وجه حق؟ وهل نحن في وضعٍ يعينُنا على تحمّل أعباء وأثقالٍ ومتاعب إضافية لما نحنُ عليه اليوم؟ فالطرفان يتجادلان من دون إيلاء اهتمام لكيانٍ كنسيّ شرقيّ ثالث له وجودُه، وأعني به "السريان"، الذين يشاركونهم طقوسًا سريانية مشتركة في الكثير منها، ولغةً واحدة بلهجة غربية هي اللغة السريانية. أليسَ في هذه المفردة من التغييب القسريّ والتغافل المتعمَّد انتقاصًا من الآخر المتشارك في الدّين والطقوس والمصير والظروف؟

   إنّ بعض هذه الدعوات المتعصّبة المفتقرة إلى الكياسة وضبط النفس وإلى الحقيقة التاريخية والوضعية في الكثير منها، تأتي في أغلبِها من القابعين في ديار العمّ سام وبلدان المجاهل المتعددة، كما أوردنا. فهؤلاء لا شغلَ شاغلٍ لهم، سوى التغنّي بماضي الأمس وتذكر سهرات القرى وصلوات الكنائس ومجرسات النواقيس الأثرية الجميلة، هذا إن كانت بقيت صامدة إلى اليوم، والمقاهي القديمة وروّادها وما كان يعتمرُها من قيلٍ وقالٍ ونوادر، ومعها زيارات الأهل وتجمّعاتهم في مناسبة ودون مناسبة. وهذا حقٌّ للجميع أن يستذكرَ ويتذكّر ويجدّ في الحنين إلى ماضيه الذي، للأسف، لن يعود ولن يتكرّرَ لغيرِه. لكنَّ الأهمّ في هذا وذاك، تضافرُ الجهود لخلق كيانٍ مسيحيٍّ قويّ مستقلّ الرأي والفكر، ناضج وقادرٍ وجديرٍ بالتحدّي للمصاعب الوجودية التي تهدّد بقاءَه وديمومتَه واستمرارَ تمسّك مَن آثرَ البقاء في أرض الوطن وعدمَ تركِ أرضِه وتراثِه وكنيستِه وبني جلدتِه! هذا هو التحدّي الأكبر وليسَ الإملاء من فوق أبراجٍ عاجية والتنظير في القومية التي لم تعد بضاعة رائجة!!!

   ونحن نرى أنْ لا باس بالإقرار بانحدار نفرٍ من المسيحيين في العراق وجزءٍ من المنطقة من جذورٍ آشورية أو غيرها "قوميًا"، دون أن تعني اللفظة ما يريد أتباعُ كنيسة المشرق الآثورية نسبَها وإلصاقَها بهم حصرًا كمكوّن قوميّ حصريّ وفرضَها على غيرِهم، من الكلدان والسريان على وجه التحديد لا الحصر، بعد يقظتِهم السياسية المبكرة قبلَ غيرِهم للأسباب التي نعرفُها. فالشرفُ للجميع أن تكون جذورُنا عريقة وعميقة في قدم التاريخ في السومرية والأكدية والبابلية والكلدانية (الكلدية) والآشورية والآرامية والسريانية وما في اصطفافِها. فمَن لا جذورَ له، لا حضارةَ له، ومِن ثمَّ لا تاريخًا ولا عمقًا فكريًا له، شريطةَ ألاّ يشطحَ أصحابُ هذا الرأي نحو مزالق التعصّب والتخوين ورفض الرأي المقابل وخيارَه المحترَم، أيًا كان.

   فمن منّا مثلاً، يرفض اليوم في ظلّ هذه الظروف القاهرة، إقامة إقليمٍ أو محافظة باسم إقليم أو محافظة آشور برعاية دولية وحرصٍ وطنيٍّ صادق، ترتبط بالحكومة المركزية. فمثل هذا التشكيل، لو تحقّق على أساسٍ جغرافيّ، وليسَ دينيّ فحسب، لجمعَ أبناءَ سهل نينوى المغتصَب حاليًا، والمتنازَع عليه بين حكومتي المركز والإقليم طمعًا بطيبِة ساكني أهلِه وكفاءة أبنائِهم وحرصهم وولائِهم للوطن والحكّام العادلين دون سواهم. مِن هنا، يكون الحرصُ على وحدة الوطن وإكمال سيادتِه ليحتضن الجميع دون تمييز وخارجَ مزالق المحاصصة الطائفية. وهذا يتطلبُ من أبناء المكوّن المسيحي بالتالي، رصَّ الصفوف وجمعَ خطاب المختلفين حول شكل وتسمية كيانهم الموحد واتخاذ الأقرب فيها، حضارةً وتاريخًا وهويةً، بحيث تجمعُ الجميعَ من دون تحسّس واستئثار واستصغار.

   وإنّي أرى من وجهة نظري أيضًا، أنّ الهوية "السريانية"، التي عُرف بها مسيحيو الشرق دوليًا كتسمية شاملة، هي الأخرى، الأقرب من هذه أو تلك، من حيث وجود عنصرين هامين: أولُهما انتساب المسيحيين إلى اللغة "السريانية" التي تقرّ وتقبل بها جميعُ الأطراف المعنية لغةً لمسيحيّي كنيسة المشرق ودويلات المنطقة لفترات طويلة نسبيًا. والثاني لكون تسمية "السريان" جاءت بالترافق مع تحوّل الشعوب الآرامية الوثنية القديمة إلى المسيحية، واقتران الهوية المسيحية مذ ذاك ب"السريان" ومنها اشتقاق "سورايي" الذي تعارفنا عليه حين الدلالة على ديانتنا ولغتنا معًا لغاية الساعة. إضافةً إلى عناصر أخرى حديثة، ومنها سياسية وتنظيمية وتاريخية، أصبحت مألوفة بسبب ورودها في مؤلفات جهابذة العلم وتداولِها في أروقة دول الخلافة الإسلامية المتعاقبة بعد قدوم الدّين الجديد واشتهار السريان فيها بجهودِهم المتميّزة في الدواوين والمؤسسات، بسبب علومهم وتراجمهم ومؤلفاتِهم ونقلِهم إياها من كتبِ شعوبٍ أخرى في سائر مجالات الحياة آنذاك دون استثناء! فكلّ الإشارات التاريخية مذ ذاك تورد اسمَ السريان وجهود السريان والمترجمين السريان والأطباء السريان وما إلى ذلك في شؤون الدّين والدولة.

   لذا، فالتخبّط في طرح الحقائق والتسميات، اقلُّ ما يمكن القول فيه، أنّه ضعيف السنَد في شأن "الهوية القومية" خارجًا عن التسمية السريانية المألوفة لغةً، والتي بسببها وبسبب السجالات بشأنها، قد أضعفت من فاعلية "الهوية المسيحية" طيلة السنوات المنصرمة، وزادت من مأساة المسيحيين في المنطقة بسبب عدم إجماعِهم على كلمة واحدة وخطابٍ واحد. ففي الوقت الذي يتحدّث فيه كثيرون مثلاً، بكون "السريانية" لغةَ مسيحييّ الشرق، يغالطُ آخرون بكون الآشورية أو الكلدانية تسمية قومية لهذا الشعب، في سجالٍ محمومٍ بين الغريمين القوميّين، مستبعدَين الطرف الثالث من المعادلة، أي السريان الذين لا علاقةَ لطقوسِهم الكنسية السريانية بهذه التسمية والتي بسببها يحصل التحسُّس الذي لا مبرّرَ له البتّة لدى البعض.

   نحن نعلم، أنَّ الشعوبَ تُسمّى نسبةً إلى اللغة التي تتحدّثُ وتكتبُ بها شعوبُها، كما أوردنا في فقرة سابقة. وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان. فلماذا التحسّس من لفظة السريان ووضع العثرات أمام تسمية المسيحيين بالسريان مثلاً، طالما أنّ الجميع يعتدّ ويعترف باللغة ذاتِها التي مازال البعض يتحدثون ويمارسون طقوسَهم بها، شرقيةً اللهجة كانت أم غربية؟ وإنّي لأُعجبُ بسعة النشوة التي تعتمرُ اليومَ قلوبَ ونفوسَ الآثوريين حينَ المناداة بالتسمية الآشورية مثلاً، فيما الكلدان مصرّون من جانبهم إلى النزعة للكلدانية التي لا أساسَ لها لغةً وهويةً في التاريخ بحسب الثقات، إنما وردت التسمية من باب التمييز عن شقّهم الأول من الكنيسة النسطورية الأولى مذ زمن التحوّل إلى الكثلكة.

   وفي هذا الشقّ، من حقّ أتباع كنائس السريان أن يطرحوا مثل هذا السؤال أيضًا. وهنا تُسعفني الذاكرة، لتعود بي إلى سنة 2005، حينما قصد وفدٌ من المجلس القومي الكلداني- الاشوري- السرياني، الذي كان بعدُ فاعلاً آنذاك لكونِه الممثل الشرعيّ للطوائف المسيحية الثلاث باتفاق أتباع كنائسِه، وكنتُ أنا ضمنَه، للسلام على المطران الكلدانيّ سرهد جمّو، مثير الجدل. فقد شُدهنا جميعًا برفضِه سماعَ أيّة إشارة إلى ما أسماه حرفيًا: "س ر ي ا ن"، وأنّه لا يوافق بغير الكلدانية تسميةً قومية لمسيحيي العراق، وقد يقبل مرغمًا بالتسمية المركبة المطروحة آنذاك "كلدو- آثور". هذا الكلام، إن تذكرَّهُ زملائي السابقون، إنْ دلَّ على شيء، إنّما يدلُّ على روح المكابرة وإلغاء الآخر والاستصغار من جماعات لهم علماؤُهم وجهابذتُهم ومثقفوهم المساهمون في مسيرة كنيسة العراق والشرق، حالُهم حالُ غيرهم من أتباع الكنيستين المشرقيتين "النسطوريتين" أصلاً، قبل انشقاق الكنيسة الكلدانية وانتمائِها إلى الكثلكة على عهد بطريركها يوحنا سولاقا في 1553، كما يعلم الجميع.

   يمكن أن نخلص إلى القول، باستمرار بقاء الإشكاليّة في "الهوية القومية" للمسيحيين بسبب هواجس وتداعيات سابقة بين المختلفين على طبيعتِها، إلى ما شاء القدر، ولن تكون لها حلولٌ سحرية، في ظلّ شذوذ نفرٍ من المغالطين وإثارتهم المتواصلة لخلافات ساذجة وناشئة عن جهلٍ بالتاريخ والجغرافية، وإيغالاً من بعضِهم في العناد أيّا هو الأصل والأجدر بحمل تسمية الجماعة. والأجدر أن يحتفظ كلٌ بشكلِه القائم وصوتِه وصورتِه أمامَ الكاميرا، خفيةً كانت أم ظاهرة، لحينِ ترتيب البيت الوطنيّ العراقيّ، وعودة المستلَب من المناطق إلى الوطن الأمّ برعاية حكومة المركز عندما تعودُ هذه إلى رشدِها وقوّتِها واحتضانِها لجميع مواطنيها ومعاملتِهم بالتساوي في الحقوق والواجبات دون تمييز. وهذا لن يكون له موضعٌ إلاّ عندما ينكرُ الساسة ذواتِهم، ومنهم مروّجو القومية ضيّقو الأفق ومدّعو السياسة من المكوّن المسيحي أيضًا، من الذين لم يتفقوا ولن يتفقوا بسبب تضارب المصالح والانتماء والتبعية والولاء. وفي هذه المفردة، لا تخلي الأحزاب المسيحية ولا رعاة الكنائس أيضًا، مسؤوليتَها عمّا يحصل. هؤلاء جميعًا، تقع على عواتقهم مسؤولية مصير شعبٍ بأكملِه وتاريخه وتراثِه ووجودِه عبر الزمن. فعندما يصلحُ الوطن ويتعافى فقط، لن يعود المسيحيون أيضًا بحاجة إلى المتلازمة المتعصّبة.

   لا لفرض الآراء

   إنّ أصول اللعبة لا تكون بهذه الطريقة، أي بفرض رأيٍ وإسقاطِه على الغير المعترض. أليسَ من حقّ أهالي بلدات سهل نينوى، وجلُّهم من السريان والكلدان، الاعتراض مثلاً على نوع الدعوات الاستفزازية، بأسلوب استيطانٍ سكنيّ "آثوريّ" حديث بعد أحداث 2003، في مثل هذه المناطق التي لم يكن لأتباع كنيسة المشرق فيها موطئ قدم كنسيّ مهمّ، إلاّ ما ندر. فمواطن الإخوة الآثوريين (من أتباع كنائس مشرقية قديمة) هي الجبال، وهناكَ ينبغي لهم المطالبة بحكمٍ ذاتيّ وبدولةٍ تاريخية ذات سيادة، وليسَ في مواطن سكن غيرِهم. فبحجة الدفاع عن السهل وأهلِه، تهافتوا مع غيرِهم إلى قراهُ وبلداتِه من أجل فرضِ واقعٍ جديد من حيث يدري أو لا يدري المنتفعون والانتهازيون من أبناء السهل الذين فتحوا أبوابَهم بعفوية تامة ومحبة للجميع وبحسن نية، فيما الغرض الأبعد كان تنفيذَ أجندات غريبة لتغيير واقع القرى والقصبات المتسمة بسمات تاريخية وطقسية معروفة بثقافتِها العربية حصرًا لقرونٍ عديدة.

   لقد ابتلي الشعبُ المسيحيّ في سلوك حياتِه، سواءً بسبب النظام السياسيّ القائم الضاحك على ذقوننا وذقون رؤساء طوائفِنا الذين لم يعد لهم لا حولَ ولا قوّة بعد فقدان أهمِّ سرَّ قوتِهم في شعبهم المهجَّر، التائه داخليًا أو اللّاجئ في أرض الله الواسعة، أو بسبب أحزابِه الهزيلة، وفي معظمِها تابعة خانعة لا استقلاليةَ لديها ولا تلبّي تطلّعاتِه. أنا لستُ آشوريًا، رغم تحمّلي اتهامات بذلك. ولن أقبل أن أُسمّى آشوريًا في ظلّ المفهوم الذي تحملُه هذه التسمية المفروضة حاليًا، من أجندة قومية متعصّبة يريد نفرٌ من السياسيين الآثوريين من أتباع كنيسة المشرق فرضَها بأيّ ثمن. لستُ أنكر تاريخية الحضارة الآشورية التي يمكن أن تصلح في الانتماء لكلّ عراقيّ، ليس للمسيحي فحسب، بل لغيرهم أيضًا. فالعراق كان ومازال وطنَ جميع هؤلاء بدون منّة من أحد. فهل يقبل الكلدان فرض مثل هذه التسمية على كنيستهم وكيانِهم؟ لا أعتقد ذلك. وإذا قبل بها نفرٌ من الانتفاعيين والانتهازيين، فلأجل مزاوجة مصالحهم الآنية، لكنها ستنقلبُ وبالًا على الأجيال القادمة. فلتحتفظ كلُّ جماعة بتسميتها ولا هم يحزنون.

   كما لم يعد مقبولاً استغلال المنابر الدولية للترويج للآشورية وحدها، فحسب، كما حصل في الدعوة الأخيرة لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لوزير الخارجية جون كيري بدعم جهود الحكومة العراقية لإنشاء محافظة في سهل نينوى تضم الآشوريين والأقليات المسيحية الأخرى التي تقطن المنطقة، بحسب ما ورد في التصريح للمشروع المذكور. مثل هذا التصريح، غيرُ مقبولٍ وفيه انتقاصٌ من مسميات مسيحية أصيلة أخرى، "آرامية – سريانية" كانت أو غيرُها. فليسَ مقبولاً اختزال المسيحيين بالآشوريين وبالتسمية الآشورية، لمصلحة طرفٍ دون غيرِه في غفلة من الزمن غير الناضج، كما حصلَ ذلك مثلاً في الدستور العراقي الأعرج.

   أجدادنا ظلوا محافظين على تسميتهم بالآراميين. وهنالك نصوص سريانية من القرن الثالث عشر تثبت حفاظهم على اسمِهم الآرامي هذا، بحسب البعض من الباحثين! كما أبقى الكثيرون على ترادف التسميتين "السريانية والآرامية" معًا حتى قرون ميلادية متأخرة. من هنا، لا أجد مبرّرًا من الإخوة الكلدان أو الآثوريين من كنيسة المشرق بالتهرب من هويتهم الآرامية -السريانية! فالادّعاء بالحرص والعمل والحفاظ على هوية الأجداد العظام دون غيرِهم، ليسَ في محلِّه، كما لم يعدْ مقبولاً. فالتاريخُ هو الشاهد المقبول على صحة الادّعاء.

   بين هذه وتلك، تبقى الهوية المسيحية، هي الأقرب للتفاعل مع الحدث والأكثر قبولاً في هذا الظرف الحرج، بغض النظر عن التسميات "القومية " المثارة وغير المتفق عليها، والنابعة من اختلاف في الطقوس والمعتقد لهذه الطائفة أو تلك. فالدّينُ يجمع، فيما المذاهب والتسميات تفرّق، لا بل تدمّر.

 

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة