اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

أوربا: تحديات وشكوك

لويس اقليمس

 

   16 اب 2016

 

      تقف القارة الأوربية اليوم أمام تحديات كبيرة، زادت من شكوكها في مواجهتها مجتمعةً، بعد أن تنوعت وتشعبت وأخذت مسارًا ممنهجًا بدقة وعناية. فالهجمة الشرسة التي تضربها في عقر دارها، في المجال الأمنيّ قبل كلّ شيء، وآخرها في نيس الفرنسية ليلة الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا، قد دقّت في دوائرها المتطورة نواقيس الخطر. فهي اليوم في موقف لا يُحسد عليه، بالرغم من التعاطف الدولي الذي أحاطَ بها، حتى من الدول والزعامات التي تخرّجت منها مدارس الإرهاب، تمويلاً وتدريبًا وعقيدة. فعندما يتمكن السارق من دخول بيت آمن ويعبث بممتلكات صاحب الدار ويسرق ويغتصب ويختفي ويقتل من دون رقيب ولا حسيب، فهذه قمّة الضعف وبداية الانحدار نحو الهاوية.

   في تفكير الغرب المتقدّم تقنيًا وعلميا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا كما نشهد، والراسخ في الطرف الآخر على مبادئ إنسانية وأخلاقية تسامحية تربى عليها منذ قرون بفعل التربية المسيحية التقليدية، هناك نوع من اللامبالاة في الأحداث الدراماتيكية التي تحلّ على شعوبه بين فترة وأخرى. أو لنقل بعبارة أكثر دقة، هناك تقليلٌ من أهمية ما يحصل مرارًا وتكرارًا، وكذا من وطأة ما يجري بفعل الاختراقات الأمنية، بالرغم من جسامة الفعل والحصيلة والهدف وما يترتب على ذلك من هزّة إعلامية تُجنّد لها مؤسسات وتُعقد مؤتمرات واجتماعات وتتوالى لقاءات لكشف الدليل والوقوف على المستور، لنأتي بالتالي إلى تبرير الأفعال البربرية للعنف الضارب في عقر الدار، وكأنَّ شيئًا لم يكن. فالزعاماتُ ومعها دوائرُ دولهم الاستخباراتية، تنفعل وتنشط وتغضبُ حينًا، ثمّ تهدأ مع هدوء العاصفة، بل قد تتعاطف مع الجاني ومع مَن يقف وراءَه لحدّ وصفه بالمضطرب نفسيًا، كما اعتدنا سماعَه. ربما، تلكم هي من بركات الخالق الذي منح البشر نعمة النسيان والعفو عمّا سلف!

    نعمت أوربا عمومًا بشيء من الاستقرار النسبي لسنوات طوال منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، حيث تعمّرت بعد دمار رهيب، وسادها الرفاه والسعادة بفعل دفع عجلتها الاقتصادية وتطورّ إنتاجها وإصدار قوانين تمتثل لدساتير تأخذ في نظرها القيم الإنسانية العليا في أقصى تجلياتها. وهذا ما أنعم عليها بالاستقرار مذ ذاك لغاية السنوات الأخيرة التي ارتفعت فيها أعمال الإرهاب بفعل الأفكار المتطرفة والغلوّ الدينيّ الذي أنتجته دول شرق أوسطية منغلقة على ذاتها، لا تحتكم إلى قيمة الإنسان، بل إلى سُننٍ ولّى زمانُها وإلى نقلٍ مشكوك في صحة ورودها. ومع بروز تنظيمات متطرفة، كان الغربُ نفسُه مسؤولاً عن إخراجها إلى مواقع العمل الحقليّ وإلى تزايدها وتنوعها بفعل سياساته الدولية غير الحكيمة في معالجة الثغرات والمشاكل. وبذلك، تكون أوربا، بسبب عدم استقلاليتها عن صاحبة القطب الواحد أميركا، قد دخلت في حالة إنذار وطوارئ يحتّم عليها اتخاذ المزيد من الحذر ووسائل الدفاع لمواجهة أدوات التطرّف والغلوّ التي توغلت في عقر دارها، بمعزلٍ عن مصالح أميركا القومية الخاصة التي جلبت وماتزال تجلب الويلات للأمم والشعوب والدول بسبب فرض جبروتها وقوانينها ورؤاها حول مصير العالم وشكل تقويمه وتركيبته.

   لقد أشرت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، بداية الانحدار في سلّم الاستقرار الغربيّ في عمومه. وحينها دخلت أوربا مثل أمريكا، في غرفة عمليات بالسهر الاضطراري على مصالحها وكياناتها وحكوماتها ومؤسساتها ومواطنيها على السواء. لكنّها لم تستطع قطّ، إحكام قبضتها على مقاليد الأمور، بالرغم من اتساع رقعة المراقبة عندها وتنوّع أدواتها في السيطرة وزيادة ملاكها الاستخباراتي. والسبب واضح لا غبارَ عليه، وهو تطوّر الأدوات التي يستخدمها العدوّ اللدود الجديد، الإرهاب الدوليّ المتنامي هو الآخر، ردًّا على سياسات غير مقبولة أو نتيجة أحقاد دفينة لما اقترفه الغرب إزاء دول سبق له استعمارها واستغلالها ونهب مواردها وسلب حرياتها وحقوقها لسنوات. فالعالم اليوم محاط بتحديات كبيرة وكثيرة، وعلى رأسها الشاغل الأمنيّ المؤرّق، إلى جانب تنامي الصراعات وانتشار الإرهاب وأدواته وتطوّر تكتيكاته ووسائله. أضف إلى ذلك، ما خلقته التدخلات العسكرية في مناطق صراع متعددة من العالم، ولاسيّما في منطقة الشرق الأوسط بحجةّ تغيير أنظمة وفرض سياسات تستجيب لمصالح الأسياد، وما أنتجته هذه السياسة من تشريد شعوب وقلع أخرى من جذورها في مناطقها التاريخية بحيث خلقت أزمات جديدة تمثلت بقواقل اللاجئين والمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، ما ساهم في خلق أزمات جانبية إنسانية واقتصادية واجتماعية وديمغرافية.

   كان الغرب يعتقد، أنه باستقراره في أعقاب الحرب الكونية الأولى وتمتعه بسلام نسبيّ، سيقدّم نموذجًا للحرية والديمقراطية على طبق من ذهب لغيره من الشعوب المبتلاة بالانغلاق على الذات وبتخلّف أنظمتها الحاكمة. ولكنّ المراكب أبحرت بغير تلك الرغبة، عندما انقلب عليها روادُها المنافسون من داخل مجموعتها وسار كلّ فريق باتجاه تحقيق مصالحه القومية على حساب غيره. فتقاطع المصالح قد خلق نوعًا من الفوضى وعدم الانسجام بين المتنافسين، حتى على مستوى الغرب الأوربي الذي لمْ يفلح باتباع سياسة مستقلّة عن صاحبة القطب الواحد في رسم السياسة الدولية. وهكذا مضى كلّ فريق في توجهاته القومية والإقليمية، غير مكترث لمصالح جيرانه، ما أشعل حرارة المحاور وأثقل كاهلَ الباحثين عن مريدين وأصدقاء لصالح صفوفه. وضمن ذات السياسة، برزت دول عُرفت بانتهازيتها للأوضاع والأحداث، كي تخطّ لها طريقًا فريدًا على حساب جيرانها. فقد دافعت فرنسا مثلاً، عن سياسة بلدها في تطبيق مبدأ العلمانية حتى الثمالة متعرّضة لتحديات ومشاكل في خطّها المستميت من دون أن تعي حجم تلك المخاطر التي قد تواجهها نتيجة تمهلها وتساهلها والتخفيف من وطأة الدخلاء في صفوفها والتقليل من مخاطرهم ومن نتائجهم الكارثية بسبب تصرفات الكثير منهم الغريبة والعدوانية وغير قابلة الاندماجية في مجتمعات أوربية منفتحة تختلف عقلياتُها وذهنياتُها وعاداتُها وتراثُها ومنهجية حياتها المدنية اليومية. ومثلها ألمانيا وبلجيكا وهولندا واليونان والدانمارك والسويد والنرويج وكندا وأستراليا وحتى أمريكا، التي ابتليت هي الأخرى بذات النيران وحصول أعمال عنف غير مبررة على أراضيها. في حين سارت بريطانيا ضمن سياستها المعروفة عنها بالانتهازية وسط الشعوب والدول. فيما غيرُها وقفت موقف المتفرّج أو المراقب السلبيّ من دون تبيان وجهة نظرها حيال أحداث الساعة أو تجاه أسباب ونتائج ما يحصل حواليها.

   هذه المواقف قد خلقت شكوكًا لدى البعض من دول الغرب الأوربي. وإني أعتقد أنّ مجرّد تكوين شك حيال وسيلة أو قرار أو نيّة معينة، يُعدّ أمرًا إيجابيًا، ويقتضي البحث في تفاصيله ونتائجه وما ينبغي اتخاذه من مواقف وإجراءات، لاسيّما حين يكون الهدف السعي لتقديم الأفضل وإيجاد حلول إيجابية تخدم المجتمعات والشعوب والأمم. فيما يبقى الشك ضمن قيمه السلبية عندما لا يجد غير التشاؤم طريقًا للحكم على الأحداث وقطع السبل أمام البحث عن حلول للمشاكل. لكنْ، يبقى العمل ضمن قناعات صلبة ترى في التفكير الاستراتيجي لمعالجة الأمور وفي اتخاذ سياسات بعيدة الرؤية وواسعة المدى في النظر إلى الأشياء والأحداث، هي الحلّ الأمثل الذي يمكن أن يقرّب المسافات بين المختلفين باتجاه خلق شكل الفرد الأوربي أي المواطن الذي يجد في شخصه كلّ مقوّمات الإنسان من حيث شعوره بالتمتع بكامل الحقوق. ومن هذه الأخيرة، الحرص على رعايته من الناحية الأمنية وتوجيهه على حبّ الأرض التي استضافته واحترام قوانينها والامتثال لكل المقوّمات التي تمّ توظيفُها لصالح أنسنتِه وراحته وكرامته بعد أن لاقى المرّ والحنظل في بلده على أيدي جلاّديه من حكّام الصدفة والطغيان ودهاقنة الفساد وسرقة المال العام. فهذه حالُ الدول الشرق أوسطية جميعًا المبتلاة بديدن دعاة الإسلام الانتهازيّ المنحرف الذي أخلاه قادتُه وأفرغه شيوخ القتل والتكفير، من نفحات الإيمان النقيّ والتسامح السماوي، ولاسيّما الذين اتخذوا صبغة الإسلام السياسيّ مأربًا وسبيلاً لبلوغ المطامع والإيغال في إفساد البلاد والعباد بشتى الطرق والوسائل.

    وإذا كانت عدد من دول أوربا، قد لجأت بعد 2007 إلى بعض الإجراءات التي من شأنها، بحسب خبراء الأمن فيها، الحدّ من عمليات إرهابية وأعمال تحريضية عبر تفعيل قانون إصدار مذكرات اعتقال سابق صادر في 2002، بحق مشاغبين ومشبوهين ومطلوبين، إلاّ أنَّ مسألة متابعة مصادر التمويل لم تكن بتلك القوة والنضج والجدّية في متابعة ملف الكثير من عمليات توظيف الأموال وتبييضها بطرق غير شرعية وغير قانونية. وربما الأسباب كثيرة لا يحق لنا الولوج في أعماقها لحساسية المعلومات والمواقف والوقائع. وتأمل هذه الدول عبر برنامج مراقبة مصادر التمويل الذي تمّ التوقيع عليه مع الولايات المتحدة الأمريكية في 2010 والمعروف ببرنامج ملاحقة تمويل الإرهاب (TFTP)، الحدّ من تدفق رؤوس الأموال غير النظيفة إلى جهات مشبوهة بغاية العنف والتطهير العرقي والديني وتصفية الحسابات، والتي تدخل إلى أراضيها بحجج الاستثمار والدعم الإنساني وعبر منظمات وجمعيات تُستخدم واجهةً لمثل هذه الأعمال غير السليمة والمشبوهة.

    كما أنّه، وبالرغم من التعديلات التي أُجريت على نظام تأشيرات الشنغن في مراقبة الحدود بين دول الغرب الأوربي المنضوية تحت لوائه عبر سرعة تسويق وتسريع استلام وتسليم المعطيات فيما بينها، إلاّ أنّ واقع ا لحال يشير إلى تقاعس النظام وعدم فاعليته في الصدّ لمكامن الخلل وتأشير المشتبه بهم والسرعة في اتخاذ الإجراءات الضرورية لمعالجة الموقف. ومن أسباب عدم تطبيقه بصرامة وفاعلية، التراخي وتبريرات حماية حقوق الإنسان والديمقراطية، وما إلى ذلك من مبررات لا تنمّ عن حرص قوميّ منطقيّ ومدرك لمسيرة الأحداث وسخونتها ممّا يحصل على أراضي دول الاتحاد. واقتضى ذلك تقديم مقترح جديد بخصوصه في نهاية العام 2015. كما تضمن جدول أعمال المجموعة الأوربية حول الأمن للسنوات 2016-2020، والمقدمة في اجتماعاتها الدورية في 28 من نيسان 2015، وضع مهمة معالجة الإرهاب والأصولية والتعصّب ضمن الأولويات في استراتيجياتها، إلى جانب تشجيع وتشديد التعاون في موضوعة ما يُسمى باتفاقية "فرونتكس Frontex-"، أي الوكالة الأوربية للإدارة والتعاون العملياتي على الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي، مع فتح الأبواب للتشاور وتبادل المعلومات والمعطيات والمستجدّات مع أطراف أخرى ذات العلاقة.

   إزاء كلّ هذه التحديات، تبرز شكوك في مدى وجود إرادة حقيقية في دول الاتحاد الأوربي لتحقيق أمنها والتفاعل مع الأحداث المتسارعة بجدّية أكبر وفاعلية تضمن حدودها وحضارتَها وقيمَها الإنسانية العليا التي تقدّس حرية الفرد وتصون حقوقه وتلبي حاجاته بغض النظر عن دينه ولونه وقوميته وطائفته ورؤيته وفكره وانتمائه. وهذا يتطلب الردّ بقوّة وبسرعة عبر شتى الوسائل الإعلامية والدعائية المتيسرة إزاء تلك التي توظفها التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها داعش، بإثارة النعرة العنفية المتشدّدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت التي فاقت التصورات وأفلحت في توظيفها وترويج بضاعتها الفاسدة وفي استخدامها وكسب التأييد لها، ماديًا وبشريًا ومعنويًا. إلى جانب هذا النشاط الحيوي، لا بدّ من التأسيس لمركز أو جهة تتولى جدّيًا الترتيب للوصل إلى مستوى متقدّم من حماية شبكات المعلومات ومراقبة مستخدميها بهدف الوصول إلى مرحة نهائية في استئصال شأفة التعصّب والتطرّف من أي شكلٍ ونمطٍ كان، وتحت أيّ مسمّى.

   من هنا، مطلوب من دول الاتحاد الأوربي، التعاضد والتكاتف إزاء الهجمة الشرسة التي تتعرّض لها أراضيها بهدف تخريب مكتسباتها الإنسانية أولاً وإعاقة تمدنها وتقدّمها ووضع العراقيل أمام صحوة جديدة قادمة تعطي دفقًا من التضامن مع تراثها وتاريخها الديني والحضاري معًا. فالسياسة وحدها، لا تُصلح المكسور، لاسيّما عندما يعترضها سوء الاقتصاد ومشاكلُه وما يحيط به من جوانب كثيرة. وإنّ ايّ تراجع في الصف الموحد لشعوبها، يعني فتح جرح في مقدراتها مجتمعةً. فهي كالجسم المتكامل، إن مرض عضوٌ فيه أو أُعيق، تنادت له سائر الأعضاء، وإلاّ فإنه سيجد نفسَه في طريقه إلى مقبرة الموت المحتّم، إن عاجلاً أم آجلاً.

   لذا، لا تتوارى الشكوك وتختفي، إلاّ عندما يفشل الإرهاب العالمي والعدوّ الأكبر المتربص بالمكتسبات القومية والوطنية المتأصلة لعموم الغرب الأوربي، في إحداثه ثغرات في صفوف هذا الأخير، إزاء حالة بقائه متضامنًا موحدًا وليس منفردًا. فمثل هذه التحديات والهجمات والصولات المتكررة، على قوتها وخطورتها، إلاّ أنها تصطدم بإرادة موحدة لدول الاتحاد، وهي القادرة على تحقيق الاستقرار والسلم ودفع عجلة التطوّر نحو الأمام. وهذا ما يؤشر تنادي دول الاتحاد لكفالة الأعضاء الذين تعرضوا لأزمات شديدة، سياسية واقتصادية ومالية. لكنّ إرادة الاتحاد ككل، وقفت إلى جانب هذه الدول في محنها وأزماتها، كتلك الخانقة التي تعرّضت لها اليونان، وقبلها مع البرتغال وإسبانيا وآخرين.

   وفي هذه وتلك، العقل السياسي الراجح هو الذي ينبغي له أن يتحكّم في دفة الأحداث، من خلال وضع حدود صارمة لأيّ خرق أمنيّ أو مجتمعيّ أو سياسيّ غير محمود النتائج. إلى جانب، اتخاذ ما يلزم من حيطة وحذر ومن إجراءات رادعة واحترازية ضدّ أيّ منهج تكفيريّ طارئ أو منتظَر قابل التحسّس به قبل وقوعه، من شأنه المساس بحقوق وحرية الغير المختلف، دولةً ومجتمعاتٍ وأديانًا وأفرادًا.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة