اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 هواجس الوجود المسيحي في العراق: سيُقال

كان في هذه الأرض مسيحيون!ج1

لويس اقليمس

 

   31 اب 2017

 

     - الجزء الأول -

    تتوالى الأيام وتمضي الأشهر وتنقضي السنون، ومعها تتراكم المشاكل وتكثر المنغصات والمحن، وسط مستجدّات سياسية واجتماعية وأخرى غيرها، ليس على المسيحيين في العراق فحسب، بل على شعوب المنطقة ككلّ. كتابات كثيرة، ومتابعات مثلُها، وردود أفعال متباينة تتصدر المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكلّها تستنجد بتوقّع الأسْوَد القاتم القادم حول مصير كنيسة المشرق الرسولية ومسيحيّيها في العراق والمنطقة على السواء، حالُهم حال باقي أتباع الديانات القليلة العدد التاريخية الأصيلة في المجتمع النهرينيّ.

   ومجملُ هذه، لا تحمل بيانَ رجاء وتطلعاتِ أمل في طياتها وتحليلاتها وقراءتها للواقع المرّ المتدهور، المتجّه من سيّء إلى أسوأ، بل الماضي نحو التراجع والتناقص الكارثيّ المتلاحق، ما يهدّد بآفة الانقراض في الوجود والهوية والبقاء. تُرى، هل سيأتي يومٌ، فيه ستذكّر أجيالٌ قادمة بوجود جماعات مسيحية أو إيزيدية أو صابئية أو بهائية أو ما كان من أمثال هذه المكوّنات الدينية والعرقية قليلة العدد، في أرض العراق، كما حصل مع اليهود مثلاً؟ وهل سيتحدث التاريخ بصدق عن بقايا أو آثار هذه الجماعات الأصيلة وعن مواقفها الوطنية التي لا شائبة عليه وعن الحضارة والمدنية والثقافة والتراث التي ساهمت ببنائها وتكوينها بكل إخلاص وثقة وأمانة في بناء البلد وتميزت عن الأكثرية الحاكمة والمتسلطة من خارج تشكيلاتها وأديانها وأعراقها؟ وهل ننتظرُ أعجوبة تعيد الحقّ إلى نصابه، وتردّ "ما لقيصر لقيصر وما لله للّه"، وتنصف المظلوم على الظالم كي تحظى هذه الجماعات بما تستحقه من حياة عادلة ومتساوية دينيًا وماديًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعلميًا وما سواها؟ أم إنَّ زمنَ العجائب قد ولّى، ولم يعد له من وجود ولا ظهور في زمن العصرنة والتأوين والحداثة والخدمات الالكترونية المستنبطة المتكاثرة مع تطوّر العلم واتساع خيال الفكر البشري وطموحات البشر التي ليس لها نهاية ولا حدود؟

   رسالة المسيحية

    رسالة كنيسة المسيح بعيدة الرؤية، متجذّرة، منفتحة لا تعرف الحدود ولا التقوقع ولا الانكفاء على الذات ولا العزلة في زوايا التخلّف، لأنَّ قوتَها من قوّة مؤسسها، وهي مبنية على الصخرة، صخرة المحبة أولاً، وصخرة الرجاء ثانيًا، وصخرة الإيمان بإله واحد قادر على كلّ شيء ثالثًا وليسَ آخرًا، ومنها اجتراح العجائب في الوقت المناسب. ممّا لا شكّ فيه ونؤمن به، أنّ هذه الثلاث معًا: الإيمان والرجاء والمحبة، هي مفتاح كلّ سعادة وكلّ خير وكلّ مشروع يبدر عن كنيسة المسيح، أينما كانت وكيفما كانت ومهما كان حجمُها وطبيعتُها وشكلُها، ذلك لأنّ من بين ينابيعها الرحمة التي تقدّرها الأديان التوحيدية جميعًا. قد يكون هذا من باب "اليوتوبيا"، أي "الطوباوية" غير ممكنة التحقيق والتطبيق بسبب ما تحمله هذه الرؤية المنفتحة من عناصر فكرية تتجاوز نطاق التفكير البشري وقدرتَه على التفاعل مع المستجدّات ونوازع العصر الكثيرة والترّهات التي تضربُ أطنابَها في كلّ مكان وكلّ حدث وأيّ بلد ومنطقة وجماعة.

    لكنّ كلمات المسيح "وأبوابُ الجحيم لن تقوى عليها"، تُبقي في حناياها بقايا أملٍ وسلوانٍ بمدى مفعولها وسط التسونامي الظالم الذي يضربُ المسيحية في العراق والمنطقة والعالم. لستُ هنا بصدد مناقشة تأييد أو رفض ما يُطرح عن إشكالية كنيسة العراق، بالأمس واليوم وغدًا، ومعها مشاكل المسيحيين عمومًا وما سواهم من جماعات تتناقص أعدادُها مأساويًا مع توالي الأيام، في ضوء ما تقرأُه الأحداث وتسرده الوقائع اليومية المستجدّة التي لا تبشّرُ بالخير أبدا. فكثيرة هي الأفكار والنظريات التي تسير في مثل هذا الاتجاه السلبيّ لتَصَوُّر الأحداث في قوادم السنين، التي قد لن تشهدُها أجيالُنا الحالية.

    ولكنّ الأجيال القادمة، ستكون هي مَن يشهد على الأحداث، مهما حصل واستجدّ. إلاّ أنَّ ما يمكن قولُه وإثارتُه بشيء من الحسرة والخذلان، مدى التذمّر القائم والإحباط الحاصل في صفوف أتباع هذه الديانات الثلاث المهدَّدة أكثر من غيرها بالانقراض. هذا ما يخشاه المسيحيون، قبل غيرهم من المكوّنات الأخرى القليلة الأعداد، من أن يأتي يومٌ تقول فيه أجيالٌ قادمة بعد سنوات عجاف: كان في العراق يومًا مسيحيون، وكانت بلداتُهم من أمثال قره قوش وبرطلة وكرمليس وبعشيقة وتلكيف وباقوفا وباطنيايا وتللسقف وألقوش والشرفية وميركه والموصل والبصرة وبغداد والعمارة والحلّة وغيرها، تمامًا كما نتحدث نحن اليوم، في ضوء قراءتنا للتاريخ وفي ضوء تقليبنا لصفحات أحداثه ونبش دُرَرِه ومزاياه التي لا تُحصى ولا تُعدّ. فكُتُبُ الأقدمين خيرُ شاهد على ماجريات الأحداث وما سطّره فيها أتباع هذه الديانة المسالمة بخاصة، منذ قرون خلت قبل أكثر من ألفي سنة، عندما سطعت شمس المسيحية وانتشرت في كلّ ركن وكلّ رقعة، ولم تترك مقاطعة أو منطقة دون أن يكون لهم فيها من شهادة تاريخية زاخرة عبر دير أو كنيسة أو مركز ثقافيّ أو مدرسة تنشر الخير والإيمان والسلام والمحبة. فقد رَسمَ المسيحيون القدامى، شهاداتٍ ساطعة بتدوين شيءٍ من ذلك التاريخ الوفير الزاخر، فيما غيرُهم نَقروا شيئًا من حياتهم الإيمانيّة النابضة آنذاك في صخور الجبال وبواطن السهول وأعالي الروابي والأكمات بأشكالٍ ووسائل مختلفة. فكان هؤلاء جميعًا، مثل غيرهم من ذوي النيات الحسنة والإرادات الطيبة، شهودًا وشهداء للحقيقة للإيمان وللأرض والوطن.

    عمق تاريخي في الذاكرة

   حين نقرأ تاريخ الآباء الجهابذة والأجداد الأفذاذ، تنتابنا القشعريرة ونُصابُ بالدهشة ويغلبُ علينا الغضب معًا، عندما نحاول معرفة الأسباب والبحث عن المسببات التي قلبت الزمن من ورديّ مزيَّنٍ ببياض الطهارة والنقاوة وصفاء النية إلى أسودٍ قاتم مترَعٍ بحمرة الدم ومصحوبٍ بعلقم المرّ الذي يمسك بالخناق حتى الموت المشؤوم. فذلك التاريخ الزاخر المأسوف عليه، كلّما أمعنّا فيه تحليلًا وتدقيقًا ومذاكرةً، يخطفُنا بألبابنا وأفكارنا وأمنياتنا إلى حقبة شهادة الأيام الخوالي المرصعة ببذرة الإيمان الحقيقية والمطيَّبة ببخور الخير والمحبة والعطاء حيث نبوغ الرؤية وعمق العقيدة ورسوخ الفكر والاستعداد الدائم للشهادة، للحياة والموت على السواء.

   ليس في هذا التذكير من تجنٍّ بقدر ما هو قراءة للحدث، أتشاركُ فيه مع العقلاء والحكماء والمتنورين من منصفي التاريخ والأحداث، بأيّ شكل كانت أو أيّ نوع أتت. مقصد التذكير هذا، يحملُنا على الابتعاد عن كلّ توجّس معاكس ومنافٍ للحقيقة والواقع. فهذه إرادة السماء وقدرة الأقدار التي تفوق طاقة البشر أحيانًا، مهما حاولَ واستبسلَ وقاومَ. وبالتالي، نكون نحن بسطاء الشعب، قد اقتنعنا جميعًا، أو بالأحرى أقنعنا أنفسَنا بأنّ الحياة ماضية في طريقها المرسوم، وأنها لن تكون أفضلَ ممّا هي عليه "ما تصير أحسن"، وأننا قد فعلنا ما توجب علينا رصدُه والتحذير منه والخوف عليه، والباقي على الله والأقدار وما يمكن أن تأتي به هذه من نعَم ونقَم. بالتوازي، بل بالتناقض من موقف البسطاء من أمثالنا من الذين لا سطوة ولا سلطة ولا قدرة على فرض الأشياء وتقرير الأمور وتوجيه الزعامات المختلفة في الدّين والمجتمع والكنيسة، يترتب على الرئاسات الكنسية المالكة سعيدًا، أن تقرأ الأحداث من مناظير مختلفة ومن زوايا عديدة كي تعي حجم المشكلة وتبادر إلى خلق الأجواء التي تتيح لمختلف جماعاتهم وأتباعهم وكنائسهم بتبيان خارطة الطريق لمستقبل أكثر إشراقًا وأفضل حياة وأمنًا وحريةً.

    وهذه دعوة ملحة كي يتحققوا بالتالي، من الأمانة التي أُوكلت إليهم عندما تدرّعوا بسلاح الرئاسة ولبسوا صليب الجلجلة على صدورهم في قيادتهم للرعايا والكنائس، بنعاجها وكباشها وتيوسها وغنمها وثيرانها (عذرًا على الوصف المتجاوز للأصل)، وكلّ الأشكال والأنواع التي تحويها إبرشياتُهم وكنائسُهم ورعيّاتُهم. وفي هذا الوصف، لن أستثني أحدا، وبدون زعل أو تبجّح. فالمسيحية مثل سائر الجماعات العرقية والدينية المتناقصة باطراد، قد وضعتها الأحداثُ والوقائعُ الأخيرة على المحكّ، وأمام خيارات صعبة، ربّما لا تقوى على حملها بعض الرئاسات الراهنة التي كاد عقدُ بعضها ينفرط، ونحن نشهدُ على تآكلها وهونِها من الداخل بسبب تراكمات التاريخ وأنواع الضغوط ومتاهات المغريات والوقائع الصعبة التي تجاوزت بطبيعتها وقوتها وأدواتها، المقدرةَ البشرية والطاقة الاستيعابية على التحمّل والصمود. ولئن، كنّا نعذر في وصفنا بعضًا من هذه الرئاسات، بسبب ما شهدته المنطقة والبلاد من ضغوطٍ وممارسات وإرهاصات تجاوزت حدود الصبر المقبول والطاقة المحدودة لشخوصها وتأثيراتها، فإنّ ذلك لا يعني من جملة ما يعنيه إعفاءهم من ترتيبات وإجراءات وممارسات وسلوكيات أثارت شكوكًا وزرعت شبهاتٍ وخلقت إحباطًا لدى المؤمنين والأتباع، بغضّ النظر عن تعلّق بعض هؤلاء الأتباع وتمسّكهم بالدين وبالولاء للكنيسة وللمسيحية بشكلٍ عام. ما ينبغي أن نتحقق منه وننادي به في السرّ والعلن، أنّ "الكلّ في الهوا سوا"، وما يصيبُ هذه الكنيسة وهذه الطائفة وهذه "الزعامة" وهذا المكوّن سيكون له تأثير على الجميع.

   إن تداعى عضوٌ في الجسد الواحد، تداعت له سائر الأعضاء! عندما نتصفح التاريخ ونقلّب أوراقَه العتيقة، يتبادر إلى ذهننا، ذلك الكمّ الهائل من الجماعة المسيحية وأدواتها، التي شملت مختلف مناطق العراق، من شماله إلى جنوبه، مرورًا بوسطه العامر ووصولاً إلى غربه وشرقه. فمن جبال كردستان العراق العصيّة إلى سهوله في السليمانية وأربيل ودهوك، مرورًا بسنجار والموصل وسهله المترامي وبلداته وقراه، عبورًا بكركوك وتكريت وسامراء، ومنها إلى بغداد والمدائن وبعقوبة والحبانية والكوفة والحيرة والنجف وكربلاء، وصولاً إلى واسط والحلة وانتهاءً بالعمارة والبصرة والعشار. فكلّ مناطق العراق وبلداته وقراه المنتشرة في مضارب أرض شنعار (العراق)، كانت تنبض بالتاريخ الزاخر للمسيحية التي سطّر فيها أتباعها صفحاتٍ مشرقة ألهمت البلاد والمنطقة بكلّ آثار الفكر والثقافة والتنوير إلى جانب أثواب الإيمان والزهد والصلاة، وتلابيب الأخلاق والعلم والحكمة على توالي السنين والقرون والأجيال.

   وكلٌّ من هذه المدن والأصقاع لها حكاياتُها وتاريخُها وشخوصُها وشعراؤُها وملافنتُها وفلاسفتُها وحكماؤُها وملوكُها ووزراؤُها وعلماؤُها وسادتُها وأديرتُها وكنائسُها وجثالقتُها وقسسُها ورهبانُها وأديرتُها وكتّابُها ونقلتُها. ومّن يريد غرف المزيد بصددها، فما عليه سوى العودة إلى كتب التاريخ، على قلّتها واندثارها بسبب عوادي الزمن والتقاعس بالقراءة والعزوف عن النهل من الينابيع الصافية للآباء والأجداد ومن كتاباتهم ولغتهم وتراثهم التي تزخر بها متاحف العالم وتفتقر إليها بيوتُنا وقلوبُنا وأفكارُنا.

   - يتبع-

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة