اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 دور النخبة في بناء الدولة المدنية

لويس اقليمس

 

   1 شباط 2018

 

    لم يتمكن قطار الدولة العراقية أن يصل بعد إلى محطة الأمان والاستقرار والبناء وإعادة نسيجه الاجتماعي المتفكّك، بالرغم من الإعلان الرسميّ "غير الواقعيّ" لانتهاء العمليات العسكرية ضدّ تنظيم داعش الإرهابي. فالفكر الداعشي التكفيريّ بشتى وسائله ما زال يعشعش في بنية الدولة ومؤسساتها وخدماتها العامة والخاصة بأشكال وطرق شتى. وهو سيظلّ كذلك، ما لم يتمّ تخليص البلاد والعباد من شلّة الفاسدين وداعميهم، وكذلك فك القيود من مسألة شرعنة مبدأ المحاصصة الذي أضحى قانونًا بحدّ ذاته، يصعب على الشرفاء والوطنيين الغيارى اختراقه ودحره وفرض سلطة الدولة والقانون كي يحظى كلّ ذي حق بحقوقه وينال ما يستحقه من امتياز مواطنيّ، ليس منّة بل كحقّ من حقوقه المشروعة التي تفرضها مواطنتُه وكفاءتُه وجدارتُه. وقد صدق دولة رئيس الوزراء حيدر العبادي بتحذيره من عودة داعش في حالة عدم القضاء على اصول الفساد وتجفيف منابعه.

    في الوقت الذي يقترب فيه العراقيون من استحقاق انتخابيّ في مطلع أيار القادم والذي قد يكون مفترقًا للطريق الفاصل في حياة الشعب والدولة، لا بدّ من مراجعة ذاتية تقوم بها كلّ الفصائل الوطنية والنخب المثقفة للتعريف بمخاطر بقاء ذات الوجوه الفاسدة التي نهبت وسلبت وأرعبت وأخّرت تقدّم البلاد بوسائل لا تُحصى ولا تُعدّ، وجلبت الوبال والدمار والتفكّك وساهمت في تراجع بناء الوطن الواحد وفي فتح جراحات كثيرة ومتنوعة. هذا هو الوقت الصعب لتقرير مصير البلاد: إمّا بناء دولة مدنية قوية متماسكة بعيدة عن الطائفية وعن صراعات المنطقة ومشاكلها وغير تابعة لهذه الجهة أو هذا المعسكر أو هذا التحالف أو تلك الدولة، أو قراءة الفاتحة على شيء اسمُه "وطن" و "مواطن" و"وطني". لذا على الأحزاب الوليدة النابعة من خضمّ الخبرات المتكونة منذ السقوط في 2003 وتلك المحتكمة إلى سلطة القانون والمؤمنة بسيادة الدولة وليس العشيرة والحزب والدين والطائفة، أن تتصرف وفق السلوك الذي يمليه عليها واجبُها الوطني والأخلاقي والحضاريّ والإنسانيّ معًا، عبر تحالفات صادقة ذات بُعد وطنيّ بنّاء ممّن تحمل في جعبتها مشروعًا صالحًا للبناء والتطوير والإصلاح والتغيير نحو الأفضل. فالفرصة أمامها مفتوحة لإحداث التغيير المرتقب، بعد الذي جرعه الشعب والوطن والمجتمع من وجوه القتامة والشؤم والغفلة.

    هنا يأتي دور التيارات الوطنية والنخب المثقفة، والعلمانية "المستقلّة" منها على وجه الخصوص، تلك المؤمنة بدولة مدنية لا تخلو من بذور التقوى والرحمة والمحبة والخير والعدل والمساواة والصلاح، وليس بدولة دينية طائفية تتستر على الفساد وتحمي الفاسدين، كما هي الحال قائمة منذ التغيير مثار الجدل في 2003. وعلى هذه القوى المتصاعدة أن ترفع صوتها عاليًا وتتجرّأ بتحذير الشعب وطبقاته الفقيرة المجروحة بخاصة، من الوقوع في حبائل وفخاخ ذات الجهات الدينية الطائفية والحزبية التي استغفلت عامة الشعب باسم الدين وسرقت ثروات البلاد في عز الليل والنهار (باسم الدين باكونا الحرامية) وطيّرت فرحة الأكباد والعباد وكمّمت وجه البنات والسيدات، تمامًا كما أثبتت فشلَها في تمثيل الشعب وفي بناء الوطن وتقديم الخدمات وفي مسيرة تطوير البلاد وتأمين سلامة المواطن وصيانة شرفه وعرضه وأمواله وحرية تعبيره وتنقله وحقه في حياة حرة كريمة. فحالة الإحباط القائمة والمتزايدة يومًا بعد آخر بسبب سوءِ أداء السلطات الثلاث، وفشلها بتحقيق تحوّلات هامة على كافة الأصعدة وكذا في الإصلاح، أصبحت حالة يومية تتشابك مع أحداث الساعة، وفق متغيّرات الشارع الثائر الساخن، الذي مازال أسير الكتل الاسمنتية والسيطرات غير الناضجة منتفية الحاجة التي لا ترحم، وكذا بسبب الأحداث السياسية والتفاعلات البينية والعلائقية بين الكتل السياسية والزعامات وأجندات كلٍّ منها، وما شهدته هذه مؤخرًا من تشظيات وانقسامات واتهامات. والخشية من كلّ هذا الحراك التشظوي في هذه الأخيرة وفي اتساع كمّ الأحزاب على الساحة السياسية، أن تكون ضمن لعبة سياسية تجيدها أحزاب السلطة لتغيير الوجوه والمسمّيات والبقاء في دارة السلطة والواجهة من جديد، ولكن بتسميات جديدة ووجوه تتلاعب بمشاعر الناخب الحائر. فالجميع يشجب ويندّد ويستنكر الفساد ويدعو لمحاسبة الفاسدين، ولم نعد نعرف الفاسدَ من البريء. ألعلَّهُ الشعب المسكين الجاثم في بيوت التنك أو أفراد العائلات التي تنبش القمامة لتحصل على ما يسدّ الرمق اليوميّ أم أصحاب البسطات والأكشاك الذين احتاروا في كيفية اللهاث وراء أرزاقهم المتراجعة؟

   من جانبٍ آخر، ما يمكن تسميتُه بالعجز القائم في السلطة التنفيذية في التصدّي للانفلات المتواصل في الشارع وإصابة الأهداف المتورطة في أعمال خطف وسطو وقتل وتهديد وما شاكلها، تشكّل اليوم تحديًا آخر يُضاف إلى نصاب المشاكل القائمة بين الأطراف الحاكمة، المشاركة منها والمعارضة، ومن تلك المتهاونة فيها في رصد الجرائم ومتابعة سلوكيات فاعليها والواقفين لها دعمًا وسندًا وتشجيعًا وتستّرًا على فاعليها على السواء. وهذا ينمّ بالتأكيد عن الضعف في مواجهة الحدث الجرميّ والفشل في تقديم الحلول الناجعة التي ينتظرها المواطن البسيط من الدولة، لا يقلّ في أهميته عن الفشل القائم في تحسين الخدمات وسدّ الثغرات الاقتصادية والمالية وبتر منافذ الفساد وأدواته.

    تواصلُ هذه السمة الفوضوية في الإدارة، التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، تفضي إلى نتيجة صائبة وهي غياب الرؤية السيادية وعدم وجود استراتيجية للتخطيط في البلاد، السياسية منها والإدارية والاقتصادية والمالية والعلمية وحتى المجتمعية التي أضحت فريسة للحكم العشائري وأصحاب الميليشيات المتنفذة في بعض المناطق والأوساط، ما يُبعد الدولة عن تطبيق مبدأ القضاء العادل بحق المخالف والخارج عن القانون وغير المنضبط من المنضوين تحت ألوية مسمّيات كثيرة لا حصرَ لها، بحيث ضاع الخيط ومعه العصفور، فأضحينا شبه دولة بلا قانون نافذ إلاّ في حبر الملفات. وتلكم حالة واضحة لا تحتاج لشرح تفصيليّ أو سند توثيقيّ.

   ما يحصل على الساحة العراقية، قيام كانتونات وتنظيمات ومؤسسات أشبه بحكومات موازية للحكومة الرسمية، لها ميزانياتُها وسياساتُها التي تفرضُها على الحكومة بفضل ما تتمتع به من سطوة وباعٍ طويل في شبه الدولة الغائصة في بحورٍ من المشاكل التي لا حصرَ لها، كما أسلفنا. ولعلّ الحلّ الوحيد الذي بإمكانه انتشال شبه الدولة هذه وإيصالها إلى برّ دولة ذات سيادة واعتبارٍ دوليّ صحيح، تكمن بتعزيز نهج "السيادة الوطنية" على غيرها من السياسات والوصول بها إلى نتيجة قيام إدارة سياسية واضحة المعالم مستندة إلى شرعية الشعب وتتحمّل المسؤولية الوطنية بموجب تخويل حقيقي من الشعب والفعاليات المختلفة التي لها حق المشاركة في الحكم وإبداء الرأي والاعتراض ومراقبة الأداء الحكومي بكلّ جوانبه. وهذا يدعو إلى اعتماد مبدأ فصل السلطات الذي مازال يعاني من تداخلها ومن تسييس في أدائها وسياساتها لشتى الأسباب والأهداف التي تتقاطع مع طموحات التيارات الوطنية، المدنية منها بخاصّة والشعبية الرافضة التي ترفع صوتَها، ولكن ما من مجيب إلاّ على خجل. من هنا، نجد أنه لا بدّ من رفع مثل هذا الغموض في هذا التداخل غير الحضاريّ والناقص للشفافية في اعتماد مبدأ المساواة وتحقيق العدالة في صفوف العامة والحفنة الخاصة التي استقطبت وسيطرت على مقاليد السلطة وثروات البلاد، وهي بمعظمها غير أهلٍ لها.

   أمّا ما تعانيه البلاد من أزمة مالية واقتصادية وديون بسبب سياسة الاقتراض التي لم تتوقف، فمردُّها بالتأكيد، سوء التخطيط والإهمال والتقصير وتفضيل المصالح الفئوية والطائفية على العامة والوطنية والفشل في إقرار استراتيجيات بعيدة المدى، واستنزاف الاحتياطيّ من أموال البلاد في مزاد صرف العملة المتزايد يومًا بعد آخر، بحيث كادت المبيعات تزيد عن الواردات الريعية في بعض الأحيان. هذه الأزمة الاقتصادية شكّلت بالأمس وما تزال تشكل اليوم تحديًا كبيرًا شائكًا في خاصرة الوطن وأبنائه ومستقبل الأجيال التي ستبقى دائنة لسنوات وأسيرةَ للدول المقرضة وشروطها.

   وهي إن دلّت على شيء، إنّما هي عنوانٌ آخر على سوء الإدارة وضعف القيادة وغياب الاتساق في الجدارة والأهلية وعدم وضع الأشخاص المناسبين من "النخب" من أصحاب الخبرات الرائدة وليس من "حفنات" من الموظفين والمسؤولين من ناقصي الخبرة والرؤية الوطنية والبعد الاستراتيجي في وضع السياسات الناجعة. حتى النزيهون المتبقون في بعضٍ من مفاصل الدولة المتهالكة، يواجهون جبالاً من الصعوبات في تأدية الواجب الوظيفي والوطنيّ، بسبب صراع الإرادات الحزبية والطائفية والعرقية في التشريع وفي اعتلاء المناصب وفي اتخاذ القرارات وفي التنفيذ على السواء. والدليل على وجود تخبّط في معظم أجهزة الدولة، يتمثل بالفشل في تقديم أجوبة أو مقترحات حلولٍ تسهم في ردع المقصّر ومحاسبة الفاسد، وفي توجيه سياسة الدولة نحو برّ الأمان بحيث ينتصر الحق على الباطل، ويسود العدل بدل الظلم، ويُردعُ الفسادُ وصاحبُه وفق القوانين وعدالة السماء، إذا ما اقتضت الضرورة من دون تقاعس. وهذا ما ليس قائمًا في أوساط حكومتنا وسياسيينا وزعاماتنا، لسبب بسيط وهو تعارض محاسبة الفاسد مع منهج التوافق الذي تحميه أطراف سياسية متنفذة في السلطات الثلاث، بحيث أصبح التوافق والتقاسم والتحاصص سمة الحياة السياسية، بل وفوق القانون والدستور.

   من هنا، سيبقى مشروع الإصلاح الحقيقي في بنية الدولة، حكومةً ومؤسساتٍ وقوانين، مجرّد أقوال منثورة وشيئًا من الدعاية الشخصية والحزبية مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الساخن، ما يستلزم شنَّ حملة حقيقية هادئة ومركزة، حكومية وشعبية، لا تخلو من الجرأة والأمانة والمصداقية بهدف اجتثاث مكامن الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة ظلمًا وقسرًا وصولاً لإدارة رشيدة لمؤسسات الدولة تكفل خدمة المواطن وتطوير البلاد وانتشالها من براثن الدخلاء عن الوطن والوطنية والبعيدين عن أحاسيس العباد وحاجاتهم ومتطلبات حياتهم الآدمية. فلا خير في إصلاحٍ لا يجدُ المواطنُ النزيهُ والمستقلّ والكفوء فيه مكانةً في إدارة البلاد وفي تطبيق الوسائل الفضلى في تسيير دفة الاقتصاد وصيانة الأمانة في الحريات العامة واستخدام ثروات البلاد في البناء الصحيح وفي تحقيق الرفاهية وتسارع الخدمات وصولاً إلى مصاف الدول المتقدّمة التي تعرف كيف تحترم الآدميين لديها وتحاسب لصوص النهار وسرّاق الليل بداعي المواطنة الحقيقية المفقودة في بلدٍ كالعراق.

   فقد اتضح بما لا يقبل الشك، أنّ فقدان البلاد جلَّ مؤسساتها الأساسية والبنيوية سببه الأساس سمة الفساد والمفسدين التي أضحت متلازمة في حياة الساسة الطارئين وذيولهم من المنتفعين والمنتشرين في كلّ مفاصل الدولة ومؤسساتها كجزء مهمٍ ضمن جيوش الموظفين العاطلين الذين باتوا يرهقون ميزانية الدولة ويقفون حجر عثرة أمام أيّ إنجاز أو مشروع للإصلاح والتطوير. ومثل هذا الإصلاح يتطلب فعلاً حقيقيًا وجهدًا مضاعفًا على الأرض كي لا يبقى حبرًا على ورق أو مجرّد دعاية لغرض في نفس عيسو.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة