اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 الاقتراض الخارجي حصار آخر

لويس اقليمس

 

   20 كانون الثاني 2019

 

     لا يخفى على أحد، ما قد يشكله نظام الاقتراض الخارجي على مستقبل الدول والشعوب بسبب الآثار المدمّرة لاقتصادها الوطني وما ترتبه هذه على مستقبل الأجيال التي لم تولد بعد. فبعض الدول حينما تلجأ لهذا الأسلوب، يجلس خبراء الاقتصاد فيها لدراسة الأسباب وتقييم الآثار وفرز النتائج الإيجابية والسلبية بحيث يتم حصر الآثار السلبية لأدنى الحدود.

    أمّا ترك الأمور على الغارب والمضيّ في سياسة الاقتراض المفتوحة من دون تحسّب للآثار المدمّرة نتيجة لعدم إجراء التقييم الموضوعي لمدى الفائدة من الاستمرار بهذه السياسة، فهذا ليس من الحكمة ولا من المسؤولية الملقاة على عاتق أولياء الأمر من المسؤولين الذين يتولون إدارة الدولة والمتحكمين بمواردها ومقدّراتها التي هي ملك الشعب. لعلّ من أسباب الاقتراض التي تلجأ إليها بعض الدول، إقرار قيام مشاريع استراتيجية تقتضي توفر أموال كبيرة ليست ضمن قدرة هذه الدولة أو تلك بحيث تستدعي اللجوء لمثل هذا الأسلوب من أجل سدّ الحاجة وإكمال المشاريع التي تراها الجهة المقترضة ضرورية في ضوء الحدود الزمنية والمكانية القائمة. وعند استكمال هذه المشاريع، شكلاً وتنفيذًا، ووضعها في خدمة المواطن والبلاد، تنتظر السلطة الحكيمة وخبراء البلد أن تعمل هذه المشاريع الاستراتيجية الضرورية المنجزة على إضافة مصدر آخر من الفائدة التي تعود على المواطن بحيث يتم استرجاعُ أقيام هذه المشاريع من مقدار مدى الفائدة المكتسبة التي تدرّ على البلاد أو المدينة أو المنطقة التي تُقام فيها. وهذا أمرٌ طبيعي جدًا. من هنا لا ينبغي على الحكومات أن تسترسل في مسألة الاقتراض الخارجي لأيّة أسباب كانت إلاّ في ضوء الحكم على ضروراتها وموجباتها وألاّ تنجرف للدعوات التي تردُ من هنا ومن هناك من دون دراسة موجبة ووجود حاجة قصوى للاقتراض بسبب ما يشكله مثل هذا الأسلوب في حالة التمادي به، من عواقب على سمعة البلاد واقتصادها ومواردها التي يمكن أن تتعرض للنهب والضياع تحت هذا المسمّى أو ذاك، أو تحت مسميات عديدة أخرى ولغايات كثيرة وبعيدة عن روح الحرص الوطني وصحة القرارات وسلامة الأجيال. في العراق، بعد تعافيه من هجمة أعتى عدوّ للإنسانية كان لا بدّ من مراجعة موضوعية لحجم الديون المترتبة على أنظمته السابقة وعلى حاضره بعد السقوط في 2003 قبل الإقدام على حلول الاقتراض الخارجي.

   فحجم الواردات النفطية التي دخلت البلاد بما يتجاوز الألف مليار دولار بسبب تعافي الأسعار في فترة ماضية كانت الأفضل في تاريخها، إضافة إلى الموارد الأخرى من ضرائب ورسوم المنافذ الحدودية وتشغيل ما تبقى من شركات منتجة، كان يمكن أن تشكل فارقًا في نوع المشاريع الاستثمارية والتشغيلية والخدمات العامة والأمن إضافة إلى سدّ هوّة البطالة والفقر التي انتشرت بنسب كبيرة في المجتمع والمدن ما أدّى إلى هجرة غير معهودة إلى العاصمة بغداد بصورة خاصة. ولو توفرت للبلاد حكومة رشيدة ووطنية ونزيهة، لما اضطرّت البلاد لأسهل الحلول بالاقتراض من الخارج ولأمكنها تسديد ما بذمتها من ديون على عهد النظام السابق وما تطلّبته الأوضاع بعد الاحتلال من إعادة البنية التحتية بشكل صحيح وما اقتضته فترة محاربة داعش خلال ثلاث سنوات عجاف لغاية شبه القضاء عليه عسكريًا، حيث مازال فكرُه وقواعدُه النائمة باقية وتستيقظ متى اقتضت الأوضاع على مرأى من الدولة، حكومة وشعبًا. سوف لن أخوض في مسألة الرؤية السياسية للحكومات الفاشلة المتعاقبة منذ السقوط في 2003، بالرغم من أنّ الحرص على الوطن وثرواته وعلى مستقبل سياساته هي من حقّ أي مواطن بل أيّ وطني يرى في المشهد السياسي الحالي حيدًا وابتعادًا عن المصلحة العليا للوطن.

   فعندما يكون الوطن في وضع المريض المتهالك بسبب الجهة التي تحكمه وتتحكم بمقدّراته، على المواطن أن يخشى أيضًا تعرّضه هو الآخر لانتكاسة صحية في أية لحظة، بمناسبة أو غير مناسبة. فصحةُ المواطن من صحة الوطن وحكومته. فإذا كان وليُّ الأمر مريضًا أو شاذًا أو لصًّا أو مخادعًا أو منافقًا أو كذاّبًا وما إلى ذلك من سوء الصفات القائمة عند العديد ممّن يحكمون البلاد منذ السقوط، فتلك طامة كبرى.

  حينئذٍ، لا يرتجى من وراء مثل هذه الأشكال لا صحةً ولا استقامة ولا محبة ولا تسامحًا ولا سلمًا أهليًا ولا مدارس ولا مؤسسات علمية ومراكز اجتماعية ولا شوارع نظيفة ولا جسورًا مؤهلة ولا زراعة محلية ولا صناعة وطنية ولا مشاركة وجدانية في المصير والبناء ولا تنمية مستدامة ولا تطورًا ولا تغييرًا في العقلية المذهبية والدينية المؤدلجة بسبب الروحية المحنَّطة لدى البعض ولا تقويمًا في الرؤية الإنسانية المتقوقعة بسبب تقاطع المصالح وغياب الضمير وانتشار العنف وأنواع المخدّرات.

   إن هيبة الدولة في الأساس هي جزء لا يتجزّأ من سياستها الاقتصادية ومن مواردها المالية وطريقة أداء فريقها الحكومي وكيفية تنفيذ برامج هذا الأخير (هذا إنْ وُجدت) وقدراتها العسكرية وما إلى ذلك ممّا يعزّز من كيانها السياسيّ ووضعها في مصافي الدول والأمم. وإذا كانت عصابات الإرهاب قد دُحرت، فإنّ الواقع يشير إلى نوعٍ آخر من الإرهاب المتمثل بالفساد الذي لا يقلّ عنفًا وتدميرًا وسطوة عن داعش الإرهابي. وهذا الكلام بحسب مصادر من داخل الأروقة الحكومية والنيابية وليس من عندنا.

   فالأمراض الداخلية، وما أكثرها، ما تزال تنخر جسد البلاد المتهالك وتستنجد أصحاب الضمائر الوطنية الحية من أجل فكّ أغلال البلاد من مثل هذه العصابات الفاسدة التي من ضمن ممارساتها المغلوطة تكبيل العراق بالتزامات مالية ثقيلة تجاه دول ومنظمات مالية دولية وإقليمية ومحلية كي يبقى فريسة سائغة للطامعين ولا يقوى للنهوض من كبوته الاقتصادية والمالية التي في جزءٍ منها يعود بسبب السياسات العنجهية للنظام السابق الذي قاد البلاد والعباد إلى تهلكة الحروب ومحرقة الموت لسنين طوال. أمّا ما شهدته البلاد بعد الاحتلال في 2003، فقد كان بالتأكيد جزءًا من النتائج المدمّرة لذلك النظام المتهور، وهو نتيجة طبيعية حاصلة بسبب الاختلال في الموازين الوطنية وغياب الحرص الشخصي والمجتمعي وسبات الضمير الوطني والإنساني. من هنا، فإن سياسة الاقتراض المتبعة في الحكومات المتعاقبة منذ سنوات هي تمامًا من بين مواقع الخلل الأخرى في سياسة البلاد، وما أكثرها. وليس من بدّ أن يستفيق البرلمان وممثلو الشعب من سباتهم العميق كي يتخذوا الخطوات الضرورية لإيقاف مواصلة الحكومة لسياسة الاقتراض القائمة.

   وهذا يتطلب جرأة وافية ووقفة وطنية جادة من أجل وضع حدود قاطعة لمثل هذا السلوك الاقتصادي المهلك لاقتصاد البلاد والمدمّر لمستقبل البلاد ومصير الأجيال التي لم تولد بعد. فهو سيكون بمثابة حصار آخر على البلد والشعب لحين سداد جميع الديون المستحقة.

   بل ستبقى الأجيال القادمة مرهونة للأجنبي ومطلوبة الذمة للدول والمنظمات لعشرات السنين بسبب السياسات الفاشلة وغير الحكيمة، للحكومات المتعاقبة التي استخفّت بقَدَر العراق وأحكمت سطوتها على موارده وسرقت ما استطاعت بمدّ يدها الطولى على قوت الشعب عبر مشاريع وعقود وهمية وكوميسيونات مجزية ونهب للثروات النفطية عبر أساليب التهريب الجارية التي لا حصر لها وبأساليب وأشكال شيطانية. وما على الجهات المعنية في الحكومة والدولة وبالأساس البرلمان، إلاّ أن تتصدى لأية مشاريع قادمة للاقتراض بحجة تنشيط الاستثمار وتأسيس مشاريع جديدة.

   ففي البلاد اليوم، هناك أصحابُ الرؤى المستنيرة وأرباب الخبرات الاقتصادية سواء في القطاع العام أو الخاص، ممّن هم حريصون على ممتلكات الشعب وحماية الثروات الوطنية وممّن بمقدرتهم تقديم النصح والأفكار والمشاريع التي يمكن أن تساهم في الحد من هذه السياسات الخاطئة عبر اقتراح مشاريع وسياسات بديلة يمكن أن تبادر إليها جهات مالية واقتصادية محلية كالمصارف الحكومية والخاصة على السواء إضافة إلى الراغبين في الاستثمار في حالة توفر شروط هذا الأخير وصلاحية قوانينه وتطورها مع الزمن.

   هذا علاوة على تنشيط دور القطاع الخاص الذي من شأنه دعم سياسات الدولة عبر لجان مشتركة تقوم بتفعيل المصالح بين الطرفين، ممّا سيعزّز من دورة الإنتاج والصناعة المحلية كي تأخذ دورها الريادي في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير السيولة المطلوبة بدل ضياعها في صفقات استيراد لا حصر لها تساهم في تسقيط الإنتاج المحلي ووأد تأثيره وتحجيم تطوره مقابل الأجنبي منه.

   إنّ ما يترتب على القروض القائمة حاليًا الداخلية منها والخارجية والتي تبلغ بحسب تصريحات مقربة من مصادر في الدولة العراقية بما يصل إلى مائة وعشرين مليار دولار، هذا إذا استثنينا سداد القيود المالية الموقوفة على النظام السابق، من فوائد ونفقات إضافية فيه الشيء الكثير ممّا يثير القلق والحيرة معًا. وعلى مجلس النواب أن يضع نصب عينيه التقديرات الإيجابية للمنظمات المالية والاقتصادية الدولية من أمثال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حيال النموّ المتوقع في الاقتصاد الوطني العراقي مستقبلاً. فهناك عوامل عديدة تشير إلى مثل هذا النموّ المرتقب بالرغم من تباطؤِه الحالي.

   هذا إضافة إلى تعافي أسعار النفط والزيادة الملحوظة في الإنتاج الوطني منه وسدّ حاجة السوق من مشتقاته، وكذا في زيادة القدرات التصديرية لكلّ من النفط والغاز على السواء. فهي كلها مؤشرات لتعافي اقتصاد البلاد والانطلاق منها لوضع سياسات صحيحة لمسار الاقتصاد الوطني جنبًا إلى جنب مع مسار العملية السياسية المتعثرة التي تحتاج وقفة ثورية انقلابية ومراجعة وطنية شاملة يقودها الشعب نفسُه وليس الأحزاب المنتفعة من السلطة، حتى تحقيق الغرض المنشود في وطن خالٍ من أشكال الفساد قدر الإمكان، وطن يتمتع بسمعة عالمية جيدة في تمدّنه وأسلوب حكمه واستقلاليته ونشره المساواة والعدل وتوفير الفرص للعاطلين ولقمة العيش للجائعين والخدمات الأمنية والبلدية التي تليق بالآدميين.

   فالعراقيون الأصلاء وليس الدخلاء والمفسدون في الأرض من لصوص اليوم، ليسوا ولم يكونوا أبدًا خارج هذه المقاييس وبمبعدة عن مثل هذه الحقوق العامة والمشروعة التي تليق بهم وبتاريخهم وبحضارتهم.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة