الاستدامة في تَرميم وَتَعمير الكنائِس وَالمَعابِد الدينية
25 اب, 2025
المُقَدِمة: تُعَدُّ الكنائس والمعابد الدينية مِن أبرَز الشواهِد الحَضارية والتاريخية الَتي تَحمل قيمة روحية واجتماعية ومعمارية. ومع مرور الزمن تَتَعرض هذه الأبنية للتدهور نتيجة العوامل الطبيعية أو البشرية، مما يَستَدعي عمليات ترميم وصيانة للحفاظ عليها. في العقود الأخيرة، أصبح دمج مبادئ الاستدامة في مشاريع الترميم والتعمير ضرورة مُلِحة، ليس فَقَط للحفاظ على التراث، بل أيضاً لتحقيق كفاءة بيئية واقتصادية واجتماعية طويلة الأمد. مفهوم الاستدامة (Sustainability) في الترميم المعماري: الاستدامة بصورة عامة تعني القدرة على تلبية احتياجات الحاضر دون التأثير على قدرة الأجيال القادمة في تلبية احتياجاتها، من خلال إدارة الموارد بشكل متوازن يحافظ على البيئة ويدعم المجتمع ويضمن استمرارية الاقتصاد. والاستدامة في الترميم المعماري هي منهج يهدف إلى إعادة تأهيل المباني التراثية أو التاريخية والحفاظ عليها، مع مراعاة البعد البيئي والاقتصادي والاجتماعي، وضمان استمرار وظيفتها وقيمتها الثقافية للأجيال القادمة. وعند تطبيقها على الأبنية الدينية، فإنها تركز على: 1. الحفاظ على الهوية التراثية والمعمارية. صيانة العناصر التاريخية والمعمارية الأصلية بأقل تدخل ممكن 2. تقليل استهلاك الطاقة والموارد. استخدام مواد وأساليب ترميم صديقة للبيئة، والاعتماد على الطاقة المتجددة والموارد المحلية. 3. إطالة العمر الافتراضي للمبنى عبر مواد وتقنيات صديقة للبيئة. 4. توفير بيئة صحية ومريحة للمصلين والزوار. فالاستدامة في الترميم لا تعني فقط إصلاح مبنى قديم، بل إعادة دمجه في الحياة المعاصرة بشكل يحافظ على روحه التراثية ويجعله قادرًا على خدمة المجتمع والبيئة على المدى الطويل. استراتيجيات الاستدامة في ترميم الكنائس والمعابد: 1. استخدام مواد صديقة للبيئة • إعادة استخدام المواد الأصلية (الأحجار، الطابوق، الأخشاب) بعد معالجتها. • الاعتماد على مواد محلية ذات بصمة كربونية منخفضة. • تطبيق تقنيات المعالجة الطبيعية (الجير الهيدروليكي، الطين المعالج) بدلاً من الإسمنت الحديث في بعض الحالات. 2. كفاءة الطاقة والإضاءة I. استغلال الإضاءة الطبيعية عبر النوافذ والزجاج الملوّن (Stained Glass). وهو نوع من الزجاج يُلوَّن أثناء تصنيعه أو يُلوَّن بعد ذلك باستخدام أكاسيد معدنية، ثم يُقطّع إلى قطع صغيرة ويتم تجميعها معاً باستخدام شرائط رصاصية أو نحاسية لتكوين تصاميم فنية وزخارف، وغالباً ما تُستخدم في: • النوافذ الكبيرة للكنائس والمعابد لإدخال الضوء الطبيعي بألوان مبهرة. • القباب والزخارف المعمارية لإضفاء أجواء روحانية وجمالية. • الأبواب والفواصل الداخلية كعنصر زخرفي. أهم ما يميّز الـ Stained Glass: 1. يضفي إضاءة ملوّنة متغيّرة حسب حركة الشمس. 2. يجمع بين الفن والوظيفة (إضاءة + زخرفة + رمزية دينية). 3. يُستخدم منذ القرون الوسطى خصوصاً في الكنائس القوطية. واهم الأمثلة على استخدام هذه النوافذ • نوافذ كاتدرائية نوتردام في باريس التي تُعد من أجمل نماذج الزجاج الملوَّن في العالم.

• نوافذ مسجد ناصر الملك ("المسجد الوردي") في شيراز، إيران، وهي مشهورة بتأثيرها البصري السحري عند شروق الشمس حيث تنعكس ألوان متعددة على بلاط وردي داخلي مميز. نوافذ مسجد ناصر الملك ("المسجد الوردي") في شيراز، إيران

II. تركيب أنظمة إضاءة LED منخفضة الاستهلاك تحاكي الأجواء الروحانية. III. استخدام أنظمة تهوية طبيعية لتقليل الحاجة للطاقة الكهربائية. 3. الإدارة الذكية للمياه • جمع مياه الأمطار وإعادة استخدامها. وذلك لتقليل استهلاك مياه الشرب أو المياه الجوفية، وتقليل تكاليف التشغيل والصيانة، وكذلك في إعادة استخدامها للتنظيف أو لري المساحات الخضراء حول الكنائس والأديرة واخيراً حماية المباني التاريخية من مشاكل الرطوبة الناتجة عن تصريف المياه العشوائي. 4. الحفاظ على الأصالة المعمارية • توثيق جميع التفاصيل الإنشائية والزخرفية وذلك قبل أي عملية ترميم للمبنى. • تطبيق مبدأ التدخل الأدنى (Minimum Intervention)، أي إصلاح الأجزاء المُتضررة فقط دون تغيير الطابع الأصلي. • استخدام تقنيات المسح الرقمي (3D Scanning) لتوثيق المبنى ورسم الخطط المستقبلية لترميمهِ. الامثلة العالمية على تطبيق مبدأ الاستدامة في ترميم وتعمير الكنائس والمعابد الدينية: • كاتدرائية نوتردام (Notre-Dame Cathedral) – باريس: بَعَدَ الحريق عام 2019، تم تبني خطط لترميمها بمواد مستدامة وتقنيات صديقة للبيئة، حيث جرى ترميمها بالاعتماد على الأخشاب الأصلية من غابات فرنسية قديمة، مع إعادة استخدام الأحجار المتضررة بعد تنظيفها ومعالجتها. الهدف: الحفاظ على أصالة الكنيسة القوطية وتقليل استخدام مواد جديدة.

• المعابد البوذية في اليابان: اعتمدت تقنيات تقليدية في النجارة مع دمج حلول حديثة لمقاومة الزلازل، حيث عند الترميم تم تفكيك الهياكل الخشبية الأصلية، ثم معالجة القطع القديمة وإعادتها في مواقعها. الهدف: الحفاظ على الأصالة المعمارية للمعابد من خلال استخدام تقنيات النجارة التقليدية التي تعكس الهوية الثقافية والتراثية. • الكنائس القبطية في مصر: في عمليات ترميم كنائس القاهرة القديمة (مثل المعلقة وأبو سرجه)، أعيد استخدام الطابوق والأحجار الأصلية والطوب الطيني المعالج بعد تنظيفها وتقويتها بالمواد الطبيعية (الجير والطين المعالج). الهدف: الحفاظ على الهوية التاريخية وتقليل التكلفة.

• كنيسة سانتا ماريا ديل مار (Santa Maria del Mar) – برشلونة، إسبانيا: • أثناء الترميم، تمت إعادة استخدام الأحجار والكتل المعمارية الأصلية التي تم جمعها من جدران منهارة، بعد تقويتها بمواد صديقة للبيئة. • الهدف: الحفاظ على الانسجام البصري للمبنى القوطي. • أديرة جبل آثوس (Mount Athos) – اليونان: • استخدمت تقنيات إعادة توظيف الأخشاب القديمة في الأسقف والدعامات بعد معالجتها ضد الرطوبة والحشرات. • الهدف: تقليل الاعتماد على الأخشاب الحديثة وحماية الغابات. التحديات التي تواجه التطبيق: • ارتفاع كلفة المواد المستدامة مقارنة بالمواد التقليدية. • صعوبة التوفيق بين معايير التراث والاشتراطات البيئية الحديثة. • الحاجة إلى خبرات متخصصة تجمع بين الترميم التقليدي والهندسة البيئية. الخاتمة: إن إدماج مبادئ الاستدامة في ترميم وتعمير الكنائس والمعابد لا يُعد مجرد توجه معماري معاصر، بل هو مسؤولية أخلاقية وثقافية لضمان بقاء هذه المعالم شاهدة على الهوية الإنسانية والحضارية للأجيال القادمة. فالاستدامة تمنح هذه المباني حياة جديدة متجددة، وتحوّلها إلى رموز حيّة للتوازن بين الماضي والحاضر والمستقبل.