ماذا بعد الانتخابات؟ هل ستتلاشى الوعود؟
الكاتب رائد نيسان حنا
19 تشرين الثاني , 2025
تنتهي الحملات الانتخابية، وتُغلق صناديق الاقتراع، وتُعلن النتائج. ينتقل المشهد السياسي من ضجيج المهرجانات ووهج الشعارات إلى رتابة تشكيل الحكومات والمؤسسات. هنا، بالتحديد، يبدأ الاختبار الحقيقي للعملية الديمقراطية، وتُطرح الأسئلة الأكثر أهمية وإلحاحًا: ماذا بعد الانتخابات؟ وهل ستتلاشى الوعود التي أُطلقت بحماس على منصات الخطابة؟
وهج الوعود وظلال الواقع
الانتخابات هي سوق الأمل؛ حيث يتبارى المرشحون والأحزاب في تقديم برامج انتخابية مليئة بالحلول الجذرية لمشاكل المواطنين. البطالة، والفساد، والخدمات المتردية، والتعليم، والصحة... كلها محاور تُبنى عليها جسور من الوعود المعسولة. المواطن يمنح صوته وثقته على أمل أن تتحول هذه الكلمات إلى أفعال تُحسن من جودة حياته.
ولكن، ما إن تستقر الأوضاع وتُشكل الحكومات الجديدة، حتى تبدأ رياح الواقع بتبديد "وهج" تلك الوعود. تتكشف التحديات الحقيقية, وغالبًا ما ترجع صعوبة التنفيذ إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
• قيود الموازنة والمالية: غالبًا ما تصطدم الوعود الطموحة بصلابة الأرقام والعجز المالي، مما يجعل تنفيذها مكلفًا أو مستحيلاً على المدى القصير ، ويتطلب إعادة جدولة للأولويات
• الإرث الثقيل: الحكومات الجديدة ترث مشاكل متراكمة لسنوات ، وتواجه مقاومة من البيروقراطية والفساد المستشري، مما يُعيق أي تغيير سريع وفعال.
• التوافقات السياسية: في الأنظمة التوافقية، قد تضطر الأحزاب الفائزة إلى تقديم تنازلات لشركاء الحكم، مما يُغير من أولويات البرنامج الانتخابي الأصلي أو يُضعف من زخم تنفيذه.
أزمة الثقة: التحدي الأكبر
يُعد تكرار المستمر لظاهرة "تلاشي الوعود المهدد الأكبر للعملية الديمقراطية نفسها " إذ يخلق حالة من الإحباط العام وأزمة ثقة عميقة بين الناخب وممثليه. ويهدد ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية: ثقة المواطن بالعملية السياسية والممثلين المنتخبين. عندما يشعر الناخب بأن صوته لم يكن سوى أداة للوصول إلى السلطة، فإنه يميل إلى:
• العزوف عن المشاركة: انخفاض نسبة المشاركة في الدورات اللاحقة كنوع من العقاب السياسي.
• الاحتجاج الشعبي والتمرد: اللجوء إلى التعبير عن الغضب خارج الأطر المؤسساتية عندما تغلق الأبواب الرسمية للشكوى والمساءلة.
• فقدان الإيمان بالإصلاح: الاعتقاد بأن التغيير الحقيقي مستحيل تحت حكم النخب الحالية مما يزيد من حالة الإحباط العام.
دور المجتمع المدني والإعلام: عيون الناخب الساهرة
لضمان بقاء الوعود قيد التنفيذ، يجب أن تتحول المسؤولية من الطرف السياسي فقط إلى جميع الأطراف، وفي مقدمتها المجتمع المدني والإعلام المستقل. هذه الجهات هي التي تمثل "عيون الناخب الساهرة" ومفتاح المساءلة المستدامة:
أ. المجتمع المدني (المنظمات ومراكز الأبحاث):
• التوثيق والمتابعة: إنشاء "سجلات وعود" تفصيلية تُرصد فيها جميع التعهدات الانتخابية، وتُصنف حسب الأولوية والجدول الزمني.
• التقييم الموضوعي: إصدار تقارير دورية ومؤشرات أداء واضحة (KPIs) لتقييم مدى التقدم في تنفيذ الوعود، بالاعتماد على بيانات مستقلة بعيداً عن البيانات الحكومية المُعلنة فقط.
• الضغط البنّاء: توجيه الضغط الشعبي بطريقة منظمة وبنّاءة عبر حملات توعية واستخدام المنصات الرقمية لإنشاء لوحات متابعة تفاعلية (Dashboards) تتيح للجمهور رؤية حالة كل وعد بلمحة واحدة.
ب. الإعلام المستقل: يُعد الإعلام شريكًا أساسيًا في عملية المساءلة. دوره يتجاوز مجرد نقل تصريحات المسؤولين إلى القيام بالتحقيقات المتعمقة
• الصحافة الاستقصائية: لعب دور المحقق الذي يكشف عن حالات الفشل أو الفساد التي قد تكون وراء تأخر أو إلغاء تنفيذ الوعود الكبرى، لاسيما تلك المرتبطة بالمال العام.
• تسهيل الحوار العام: توفير مساحات محايدة للمقارنة الموضوعية بين الوعود والواقع، واستضافة خبراء لتحليل الأداء الحكومي، وربط المواطنين بصناع القرار.
المسار نحو التنفيذ والمساءلة
إن السؤال ليس عن حتمية تلاشي الوعود، بل عن كيفية ضمان بقائها قيد التنفيذ. يتطلب الانتقال من "القول" إلى "الفعل" تضافر الجهود والالتزام بمجموعة من المبادئ:
• المصداقية والشفافية الحكومية: على الحكومة الجديدة أن تكون صادقة بشأن التحديات، وأن تشرح للمواطنين بوضوح جدول الأولويات وسبب تأجيل بعض الوعود، مع تحديد جدول زمني واقعي للتنفيذ.
• دور المعارضة الفعالة: يجب على الكتل غير الحاكمة أن تلعب دورًا بناءً في مراقبة أداء الحكومة ومساءلتها عن عدم تنفيذ الوعود، بدلاً من مجرد ممارسة التعطيل السياسي.
• صحوة المجتمع المدني والإعلام: المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام المستقلة هي عيون الناخب بعد الانتخابات. يجب عليها تتبع الوعود وتقييم التقدم المحرز ونشر المعلومات بشفافية، لتكون جسرًا للضغط الشعبي البنّاء.
• المشاركة المستمرة للناخب: لا ينتهي دور المواطن بوضع ورقته في الصندوق. يجب عليه أن يمارس حقه في المحاسبة والمطالبة من خلال القنوات الرسمية والمدنية.
في الختام، تبقى الانتخابات مجرد خطوة أولى نحو التغيير. إنها مجرد مفتاح تسليم السلطة، لكن الإصلاح الحقيقي يكمن في الأشهر والسنوات التي تليها. لكي لا تتلاشى الوعود، يجب تحويلها من "أحلام انتخابية" إلى "خطط عمل ملزمة" يراقبها الجميع، ويحاسب عليها الشعب عند نهاية كل ولاية. هذا التحول هو جوهر الديمقراطية القوية والحكم الرشيد.