اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

مشهد ومشاهد: استذكارًا لفاجعة كنيسة سيدة النجاة

في ذكراها السادسة!

لويس اقليمس

 

   30 تشرين الاول 2016

   مع حلول الذكرى السنوية السادسة لحادثة كنيسة سيدة النجاة المفجعة التي اقترفت في 31 تشرين أول 2010 من قبل زمر الإرهاب المتطرفة والمتزمتة حدّ النخاع، وبالتعاون مع أدوات فاقدة للوطنية وللضمير الإنساني، أقفُ حائرًا متسمّرًا كيف خرجتُ سالمًا مع غيري من الناجين من تلك الكارثة. وما زال السؤالُ لم يختمر بعدُ في أذهاني ولا يريد المغادرة، مثل غيري من عباد الله، الملتزمين بحدود العقائد وحرياتها وتعاليمها السماوية، صافيةً غير مخترَقة، والمؤمنين بحرية الرأي والفكر والإبداع من دون ضغوط ولا رتوش، والمصرّين على التمسك بسِمة الالتزام الوطني والتمنيّ بعودة بنيان البلد شامخًا وبتراصّ نسيجه الاجتماعي وبقاء فسيفساء تنوعه الاثني والديني والمذهبي فيه سالمًا ومتعايشًا.

 ديمقراطية الفوضى

    أتساءل اليوم في خضمّ فوضى الديمقراطية الخلاّقة التي أوجدتها التغييرات الدراماتيكية في 2003، ومن حقّ كلّ مَن يحمل هذا الصنو من الأفكار المنفتحة والمفاهيم التنويرية والمنطلقات الوطنية والإنسانية أن يوجّه ذات السؤال: إلى متى يبقى العراق رهينة بيد أعدائه والطامعين فيه، وفريسة للدخلاء والفاسدين والمفسدين، ومطيةً لكلّ مَن هبَّ ودبَّ من دون رقيب ولا سلطة رادعة، غائبًا في وجدانه الوطني، خاليًا إلاّ ما ندر من سمات الوطنيين الأحرار الذين يؤثرون المصلحة العليا فيه على ما سواها من منافع ومكاسب شخصية ودينية وطائفية وحزبية وإقليمية؟ ألا يكفي ما حصل من عبث بمقدّراته ومن تدمير في مؤسساته وسلبٍ لهويته الحضارية والوطنية والاستهانة بهيبته العربية ونزوله إلى الدركات السفلى في الإنسانية، ليقف في الدرجات الأخيرة في سلّم العطاء والتطوّر والتنمية، وأولاها في استشراء الفساد واللصوصية وهدر المال العام والاستحواذ على عقارات الدولة والسطو على حقوق الأجيال القادمة من الثروات الوطنية الطبيعية التي يتمّ سرقتها واستغلالُها بأبشع الوسائل والطرق؟ جملة طويلة، لكنّها نابعة من كيان مجروح، وقلبٍ مفطور، وصدرٍ مفجوع بما يرى ويجري ويصير.

  وتهرول الأيام متراكضةً من شدّة العسر والخوف والهلع المتلازم حول المصير والمستقبل، لتعيد على الملأ ذكرى الفاجعة، بل حقيقة تلك القصة التي أعيدَ ويُعاد سيناريوهاتها ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة مع تسارع الزمن الغادر في كلّ يومٍ وفي كلّ شبرٍ من أرض السواد في الوطن المغدور. وآخرُها مشاهد الجريمة البشعة التي ضربت العمق الإنساني والنسيج "المواطنيّ المدنيّ" في الكرّادة، أقدم حيّ سكنيّ عرفته بغداد، عاصمة الرشيد الأبيّة، ومدينة الأنس النؤاسية، وحاضرة الجمال العربية التي كانت حتى الأمس القريب عصيّة على أعدائها، أبيّة في مبادئها وقاهرةً في ردود أفعالها حينما كان يُحسب لها ألف حساب وحساب، "قلعةَ للأسود"، و"منارةً للمجد والخلود"!

 في هذه الأيام الرتيبة المربكة في مسيرة "شبه الدولة" العراقية، وهي تخوض معركة مصيرية لتحرير أعرق مدينة عراقية، الموصل الحدباء، من دنس حثالة المجتمع، داعش الإرهابي، تعود تلك الذكرى الأليمة لفاجعة كنيسة سيدة النجاة بحسراتها وتنهداتها وانفعالاتها. فبضربتها القاسية تلك، قوّضت تلك الحادثة من دون شكّ، عمقَ الجماعة المسيحيّة وقصمت ظهرَ أتباعها وأربكت هويتَها وأضعفت من وجودها التاريخي والجغرافي والديمغرافي، وهي التي كانت تحظى حتى عقود متأخرة من الألفية الثانية، بحقيقة كونها من المكوّنات الأصيلة والجامعة والمهمّة، عددًا وفعلاً ونوعًا، في نسيج المجتمع العراقي. عيوننا جميعًا، مواطنون أصلاء من جميع شرائح المجتمع العراقي، ترنو هذه الأيام، إلى هذه المدينة وسهلها المطعون في الظهر، حينما تمّ تسليم المدينة وسهلها، بتلك الطريقة المشبوهة والمشينة بأيادي عصابات ملوثة بالجرائم البشعة، والتي لم ولا تعرف غير لغة الدم والقتل والسبي والاغتصاب والنهج التكفيري سبيلاً لفرض أيديولوجية منحرفة لا تمتّ بصلة لأيّ دين أو مجتمع إنساني يعترف بربٍّ خالق الكون، وهو وحده الديّان العظيم، وليس بحاجة لبشرٍ ضعيف للدفاع عنه وعن قدراته العظيمة.

    ليسَ هناك أدنى شكوك، من أنّ تسليم الموصل وبلداتها مثل غيرها من المناطق التي تدنست بأرجل داعش وأفكارهم المسخ، كانت ضمن سيناريو مخطَّط له ومعَدّ من قبل الأسياد، رعاة البقر، الذين نشروا الفوضى الخلاّقة في أرجاء المنطقة، ومنها العراق، من أجل تسهيل تنفيذ المخطط بإجراء تغييرات ديمغرافية بحسب الأهواء والمصالح الضيقة لراعي العملية السياسية الأول. فالأسياد قلّما يعبؤون بأحوال البشر وقناعاتهم وطموحاتهم وحقوقهم، إلاّ إنْ حصلَ ذلك ضمن إطار المصالح العليا، وتناسقَ مع الرغبات والإرادات. فهُم يقتلون القتيلَ ويمشون في جنازته، يعتذرون أو لا، ثمّ يقدّمون المعونة والحسنة بحجة العطف والتضامن والتعويض! والعتب في كلّ هذا، يقع على مَن ائتمنهم الشعب الخائب والبائس ليكونوا أمناء للمبادئ والشعارات التي رفعوها والوعود التي قطعوها قبل الانتخابات، ونسوها أو تناسوها بعد جلوسهم على الكراسي واقتسامهم الكعكة مع الفاسدين والمفسدين في الدولة وأركانها على السواء.

 سقوط ورقة التوت

    اليوم، كلّما أمعنتُ التفكير فيما جرى ويجري في أرضنا الآيلة للجدب والقفر، ومدننا الجريحة التي تنزف في كلّ يوم وكلّ ساعة، دماءً حمراء تسقي الأرض شهادةً ووفاءً، أكاد لا أصدّق أنَّ مشروع الدمقرطة الذي ارتهنت له بلادُ الحضارات وموطنُ المسلّة الحمورابيّة العريقة، كان مجرّدَ مشروع ٍ تآمريّ واستثماري وتجاريّ، ليسَ إلاّ. فقد أثبت تقرير تشيلكوت البريطانيّ، وهي إحدى الدول الأكثر تحمّسًا لغزو العراق، والأشدّ تبعية لصاحبة القطب الواحد، والحالمة دومًا بإهانة أرض "شنعار" وقطعِ أوصاله، أثبت هذا التقرير أنّ الحرب التي شنّها الغزاة الطامعون بقيادة أمريكا عدوّة الشعوب وحليفتِها المتلونة بريطانيا، وبدعم من اللوبي اليهوديّ الخفيّ، لم تكن شرعيّة. وبذلك تسقط كلّ الحجج المفبركة والأعذار المهيّأة سلفًا، ما يترتب عليه بالتالي بطلانُ قرار مجلس الأمن الذي سوّغَ الغزو والتدخل الهمجيّ للتحالف الدولي في عام 2003. فالواقعة قرائنُها باطلة، ومن ثمّ يستوجب ذلك محاسبة القوى التي اخترقت القانون الدوليّ بغزوها وتدنيسها لأرض الوطن، وبالسماح لسيول الدماء كي تجري مدرارًا، لمجرّد رغبة الأسياد بكسر شوكة أمّة عريقة ودقّ الأسفين في أوصالها وتقسيمها ضمن مشروع استعماريّ قديم-جديد، لا يستند إلاّ لمصالح قومية للمستعمر الطاغي. "فما يُبنى على باطل، يكون باطلاً ويبقى كذلك، مهما طال الزمن وتوالت الأيام والسنين". والأيام حبلى بأنباء سقوط الجبابرة مهما تجبروا وطغوا وعاثوا في الأرض فسادًا وقتلاً ونهبًا واستغلالاً.

    من هنا، يدرك الكثير من المراقبين وأرباب الفكر، اليوم في الوطن والعالم أكثر من أي وقت مضى، أنَّ الغربَ الاستعماريّ الجديد بقيادة أمريكا، بكلّ ما أوتيت هذه من طغيانٍ وتبجّح وكذب ورياء ونفاق، لا يمكن أن تسلم مشاريعُه أو فعّالياتُه السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، من نفحة استغلاليّة واضحة تُؤثر المصالحَ القومية لبلدانه على أيّ شيء آخر، حتى لو حصل ذلك بالدوس على الرؤوس الثائرة وقمع الحركات التحررية وتصفية أصحابها وقطع شرايين الحياة عن الأحرار فيها.

   إلاّ أنَّ مصيبة العراقيين، انقسامُهم حول فحوى الرسالة التي حملها الغازي الأمريكي منذ بدء الغزو، والتي تمثلت بالقرارات المجحفة لرئيس الإدارة المدنية المؤقت بول بريمر، الذي استحق بجدارة تلقّي حذائين من الصحفي المغمور، تمامًا مثل سيده جورج بوش الابن. فإصرارُه على حلّ الجيش السابق، وهو جيشٌ عقائديّ مدرَّب وفاعل، بدعوى انتمائِه إلى العقيدة البعثيّة الصدّامية، والذي جاءَ بحسب بريمر نفسه، باستشارة من طرفين سياسيين محلّيين يحملان أجندات طائفية (الشيعة) وإتنية (الكرد) واضحة لا لبسَ فيهما، هذا الإصرار على هذه الفعلة القذرة من الأطراف جميعًا، قد أسقط ورقة التوت وكشف عورة الغزاة ومَن تحالفَ معهم من ساسة الصدفة الذين ركبوا موجة التغيير العبثية وانتقلوا مع الغزاة على ظهور دباباتهم الزاحفة، وذلك حينما جرى فتحُ الحدود وتحوّلتْ أرضَ العراق مشاعًا وساحة لقوى وتنظيمات ومنظمات إجرامية وتدخلات سياسية مشبوهة من دول الجوار وأخرى إقليمية وأجنبية عاثت في الأرض فسادًا، كلّ وفق مصالحها وأجنداتها. وقد حصدنا ما زرعه الساسة وزعماءُ كتلهم!

    وفي الحقيقة، إنَّ ما شهدته البلاد بعد فتح الحدود على مصاريعها، وغبّة حلّ المؤسسة العسكرية وهي الضامن المفروض لحماية البلاد والعباد، وكذلك ما حصل من إرباكٍ عام بعد عمليات سلب ونهب الوزارات ومؤسسات الدولة التي تمثلُ هيبتَها وفيما عُرف ب"الفرهود"، وما خلّفته هذه كلّها من حالة فلتان شوارعيّ ومناطقيّ وطائفيّ شاعت وتعززت وتواصلت لغاية يومنا هذا، إلى جانب القصور الواضح في تحديد الأهداف، سواءً من الطرف الغازي أو من الشلّة الطامحة للجاه والسلطة والمال، وغياب المشروع الوطنيّ لدى الحكّام والسياسيّين "المراهقين"، وإيثار المصالح الطائفية والمنافع الشخصية على المصلحة العليا للوطن، والجشع الشديد للغَرف من المال العام، وسيادة الفساد في مفاصل الدولة فيما بعد، هذه بأجمعها كانت خيرَ عنوان وأطيبَ فرصة وأتعس بشيرٍ لبروز تنظيمات إرهابية قفزت على الساحة بين ليلة وضحاها لتشكّل سلسلة في طوابير انتحارية استخدمت معها كلّ وسائل الإجرام من مفخخات وأدوات وبشر وفكر متطرّف نما بفضل دعاة الشرّ والقتل والإرهاب والجهاد وبتمويل عالميّ ومحلّي وإقليمي على السواء. طرفٌ يهندس ويخطّط، وآخر يموّل ويشجّع، وغيرُه يدعم ويسوّق، فيما جهات أخرى تُغسل أدمغة السذّج من عباد الله كي ينفّذوا ما لا يرضي الله بجرمهم الفاضح، قصدًا للقاء الرسول والاستمتاع بصحبة الحوريات اللاّئي يستعدن جمالهنَّ وقدراتهنّ أفضل من السابق في كلّ مرّة يحظى الانتحاريّ المغمور بنكاحهنّ، بحسب ما يزرعه شيوخ القتل والفتنة والتحريض في صدور هؤلاء السذّج الذين يتم التغرير بهم بهذه الترّهات والتلفيقات على الدين الحنيف.

 الغرب مَن أيقظ التكفيريين وشجّعَ الفكر المتطرّف

   لقد ساهم الغرب بقيادة أمريكا، في ظهور الظلاميين من الجماعات المتطرفة وفي بروز تنظيمات إرهابية تحمل أيديولوجيات ديماغوجية متشددة لا تقبل بالآخر المختلف عن خطّ تفكيرها المنغلق على الذات وعلى الدّين وتفاسيره القبلية المتخلّفة في بداوتها وبداءتها وقصور فهمها لدورة الحياة المتطورة والمتجددة مع الزمن والفكر والعلم. فقد فعل الغربُ ذلك، سواءً مع سبق الإصرار أو من غير إدراكه للنتائج المترتبة على تلك الخطوة الشنيعة، باستغلاله الأرضية المهيَّأة لمثل تلك الأفكار الظلامية بوجود حاضنات عديدة وكثيرة لها في دول الشرق الأوسط ولاسيّما العربية منها والإسلامية، كي يلعب دور المحرّض باستخدام دعاة الفتنة إرضاءً لله والدّين، والأخير بريء براءة الذئب من دم يوسف البار! لقد كشفت اتهامات وردت على ألسنة شخصيات مرموقة في وزنها، تشير صراحة ووجاهة وتلميحًا إلى الدور القذر الذي لعبته الدولة الغازية، أمريكا، قائدة الشرّ في العالم، برعايتها لإخراج تنظيم الدولة الخرافية إلى الوجود. وآخرها اتهام المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لإدارة أوباما بتأسيس هذا التنظيم وزجّه في صراعات إقليمية في المنطقة بهدف تسهيل السطو على مقدّرات بلدانها وإعادة تقسيم أوصالها وفقًا لأجنداتها ومصالحها وحبًا بثرواتها وليسَ لنشر مبادئ الإنسانية والديمقراطية كما تتبجّح.

   مجمل هذه الظروف والقرارات والإجراءات، قادت البلاد والعباد إلى حافة الهاوية، وجعلت من أبناء الجماعات المتنوعة في النسيج العراقي التقليديّ المتعايش من دون استثناء، لقمةً سائغة بيد هذا الإرهاب وأدواته التي تعددت وانتشرت وتفاقمت، إلى جانب الصيت السيّء لمَن أتى بهم الغزاةُ لحكم العراق من دون خبرة ودراية واستراتيجية وهدف وطنيّ. والطامة الكبرى، كانت في تنصّل الغازي الأمريكي من تطبيق استراتيجيته في بناء السلم الأهلي وتعزيز الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة، بعد الاتفاق على انسحاب قواته في الاتفاقية الموقعة مع الحكومة العراقية في نهاية 2011. وقد خلق ذلك الخرق ثغرات كبيرة وكثيرة زادت من انتهاك سيادته واستقلاله السياسي ووحدة أراضيه ومياهه وأجوائه. كما تهدّد نظامُه الديمقراطي الحديث الولادة، وتفتّتت وضعفت مؤسساته وهيئاتُه بسبب تعزيز مبدأ المحاصصة وبروز النعرة الطائفية والمذهبية التي غذّاها الغزاة وزرعوها في عقول وقلوب ونفوس الساسة المراهقين الذين لم يتورعوا بالتملّق لراعي العملية السياسية الخرقاء، إن ظاهرًا أو في الباطن، تاركين مصلحة البلاد والشعب على كفّ عفريت نتيجة للفساد الذي استشرى في جميع مؤسسات الدولة، بسلطاته الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولولا هذه السياسة الخرقاء والتواطؤ الفاضح من جميع اللاعبين على المسرح العراقي، لما تمكن الإرهاب من بسط نفوذه على مناطق شاسعة من الوطن والتحكم بمقدّرات مدن وبلدات وقرى كثيرة امتدت على أكثر من ثلث أراضي البلاد بين عامي 2014-2016 على أيدي دولة الخرافة الإسلامية.

    مَن ينصفُ الأٌقليات؟

    لقد شكلت حادثة كنيسة سيدة النجاة الإجرامية مثل مثيلاتها التي ضربت كلّ شبرٍ من أرض العراق، حين بلغت هذه أوجَها بفعل ما اقترفته التنظيمات الظلامية لاحقًا من أعمال ترقى للإبادة الجماعية في مناطق عديدة من العراق وفي المنطقة بعد سيطرة دولة الخرافة على مناطق شاسعة من البلاد، شكّلت هذه نقطةً سوداء في جبين الإنسانية ودول الغرب، نتيجة لسياسات هذه الأخيرة العبثية الكارثية اللاّمبالية بمصالح الشعوب المقهورة والمستضعفة.

والأنكى من هذا كلّه، استمرار زجّ البلاد في أتون صراعات داخلية متناقضة المصالح ومتعددة المفاسد في أوساط الكتل السياسية وأحزابها وشخوصها الذين اعتادوا تبادل التهم بالفساد والقتل والتآمر، من دون تعرّض معظمهم للحساب والقصاص والمقاضاة، بسبب تسييس القضاء وخضوعه لنظام المحاصصة الطائفي الذي يمنح نظامَ التوافق سلطةً فوق بنود الدستور وتطبيقاته. فالذين يحكمون البلاد، مازالوا خالو الوفاض من شيءٍ اسمُه "بناء الوطن"، و"سيادة القانون"، و"المساواة والعدالة، و"الأمن والخدمات" و"وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وحسب الاستحقاق الوطني وليس الانتخابي المشبوه"، تطبيقًا لدستور توافقيّ وُلد أساسًا معاقًا بعملية قيصرية.

    ومثل هذا المشهد السياسيّ المتأزّم ما يزال قابل الانفجار في أية لحظة، بسبب "لعبة جرّ الحبل" المتفاقمة بين الشركاء الفرقاء، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم. واليوم، استذكارًا للذكرى السادسة لفاجعة كنيسة سيدة النجاة، نتذكّر وبكثيرٍ من الحسرة واللوعة، شلّة الشهداء الخالدين ال 46 من المصلّين الأبرياء من الجماعة المسيحية، بينهم كاهنان شابان عرفتهم كنيسة العراق ومنطقة الكرادة بالذات، بغيرتهما الرسولية ومواقفهما الوطنية وطيبتهما وسط سكان الحيّ، بشهادة مسلمي الحيّ أنفسهم. والخطيئة الكبرى لهؤلاء المصلّين والمسالمين من عباد الله، من الشهداء الذين أضحت دماؤُهم بذارًا لأرض الوطن، والجرحى الذين نجوا بأعجوبة، أنّهم كانوا عصر ذلك الأحد المقدس، يبتهلون إلى الباري، إله الحق والمحبة والتسامح والطيبة والرحمة، كي يزيل الغمّة عن الأمةّ الجريحة، ويهدي الحكّامَ وأصحابَ الجاه والقوى المستحكمة في العملية السياسية إلى سواء السبيل والعودة للاحتكام إلى العقل ونزع بذور الطائفية التي نخرت جسد الوطن ونهشت أحشاءَه وأثخنت جراحاته. فقد توالت بعدها النكبات وتعددت المصائب وساءت الأحوال في المال والاقتصاد والخدمات والأمن، وكثرت الضغائن والأحقاد بين أبناء الأديان والطوائف، واشتدت الصراعات بين الأحزاب والكتل والعشائر بسبب تناقض المصالح وفظاعاتها. وكان فيها الشعب المغلوب على أمره دومًا الضحية الكبرى، فيما الباحثون واللاهثون وراء الجاه والمال والسلطة يقبعون في أخدار المنطقة الخضراء ويتسامرون في أروقة الفنادق الفخمة وصالاتها ومنشغلون في تهيئة ومراجعة صفقاتٍ ليسَ للوطن فيها ولأبنائِه من مصلحة.

  ومذ ذاك، والجماعة المسيحية، مثل غيرها من الأقليات الاتنية والدينية المهمَّشة في الحكومات المتعاقبة، تشهد انحسارًا في الوجود وتناقصًا في العدد بسبب نزيف الهجرة القاتل ومواقف الغرب الصادمة ممّا يجري ويحصل أمام أنظار الملأ. فقد فتح هذا الموقف اللاّمبالي بما حصل ويحصل، للفئات المكوّناتية القليلة العدد في البلاد، ومنهم المسيحيون، فتحَ جراحًا عميقة في جسد البلاد المثقل بالطعنات الداخلية والخارجية والإقليمية على السواء، عندما سمح بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحقّ مواطنين آمنين جرى تهجيرُهم وطردهم من بلداتهم وقراهم وسلب ممتلكاتهم وأموالهم وحلالهم في أبشع كارثة شهدتها الإنسانية على أيدي جماعات إرهابية متطرفة وظلاميين استخدمهم الغرب وأمريكا أداةً لتحقيق أجندة إعادة خارطة البلاد والمنطقة وفق منهج مشبوه، اشتركت فيه عناصر مشاركة في العملية السياسية، تجاذبت فرضَ مصالح دينية وإثنية وطائفية فيما بينها.

   وما يزال المشروع الأمريكي في طور الإنجاز والحركة والتفاعل. والخوف الذي تحتاط منه هذه الأقليات الدينية والإثنية يكمن في وقائع ما بعد تحرير مناطقها المغتصبة التي يُخشى تغييرُ ديمغرافيتها، لاسيّما بسبب فقدان الثقة بالراعي الدولي وضعف الإحساس الوطنيّ لدى صنّاع القرار وحكّام السلطة الفاسدين حتى الثمالة وصعوبة عودة المهجّرين والنازحين إلى مناطقهم من دون ضمانات دولية، وأخرى محلية، وطنية وأمنية وخدمية. فهلْ يكفّرُ الغرب باعتباره المتهم الأول بالجريمة، عن الذنب ويعيد تلك المناطق إلى أصحابها الشرعيين، ويعوّض المواطنين ما فقدوه؟ وهل ستبادر الدولة إلى اتخاذ خطوات وإجراءات وطنية خالصة لتعويض الناس بعدالة، وفي بسط الأمن والأمان وإعادة دورة الحياة إلى هذه المناطق بعد تحريرها المؤمَّل قريبًا، وتكفّر هي الأخرى عمّا اقترفه الشركاء السياسيون فيها بحق مواطنيهم حين تخلّوا عنهم وفق مساومات وصفقات تقتضي استقدام داعش الإرهابيّ لتنفيذ المخطّط الشيطاني الذي يضمن لكلّ فريقٍ حصتَه من الكعكة؟

إلى ذلك اليوم المنتظَر بالعودة الميمونة إلى الديار المسلوبة، نسأل الرحمة لشهداء كنيسة سيدة النجاة بهذه الذكرى المؤلمة، ولشهداء العراق جميعًا الذين خلّدوا أسماءَهم في سفر التاريخ. ولتكن عودة نينوى وبلداتها إلى حياض الوطن مدعاة للوحدة الوطنية، والنازحين عنها والمهجَّرين منها قسرًا دليلًا لوحدة الصفّ ونهجًا للساسة والحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى على السواء، من أجل إعادة ترتيب البيت الوطنيّ ووضع الأمور في نصابها العراقي الخالص وتطبيق الديمقراطية والعدالة والمساواة بعيدًا عن الأنانية الطائفية والتوجهات الدينية والمذهبية التمييزية بين المكوّنات. الّلهمَّ آمين

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة