اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 نحو عالم أكثر اعتدالاً وحكمة ورحمة

لويس اقليمس

 

   18 كانون الثاني 2018

 

    في سابقة فريدة، بادرت قيادات دينية إسلامية محلية وإقليمية ودولية بارزة، بكسر قاعدة تحريم تهنئة غير المسلمين، ومنهم المسيحيين (النصارى بحسب كتابهم) أو التشبه بالاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم، بحسب دعوات بهذا الخصوص، ومنها دعوات حديثة العهد.

   ما ورد في رسالة التهنئة لمناسبة أعياد الميلاد، التي بعث بها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، مخاطبًا البابا فرنسيس بابا الفاتيكان والمسيحيين في العالم ينبئ بفتح صفحة، بل صفحات جديدة تدعو إلى احترام الغير المختلف في الدين أو المذهب أو اللون. فمثل هذه الخطوة المتقدمة في الرؤية السديدة والنظرة الثاقبة الواقعية إلى الحياة وإلى مستجدات الأوضاع، من شأنها "ترسيخ فلسفة العيش المشترك بين الناس، وإحياء منهج الحوار، واحترام عقائد الآخرين، ونشر ثقافة التسامح والسلام، وتنقية الأديان مما علق بها من فهوم مغلوطة، وتديّن كاذب يؤجج الصراع ويبث الكراهية ويبعث على العنف"، بحسب الرسالة المنشورة والتي تستحقُ كلّ تقدير وإعجاب وتشجيع. وهي أيضًا تَعِدُ بالأمل بغدٍ أفضل بين الأديان والشعوب. كما أنّ إشادة شيخ الأزهر الموقر بجهود بابا الفاتيكان من أجل "إيقاظ الضمير الإنساني لرفع المعاناة عن الفقراء والبؤساء والمستضعفين في العالم، ودعاءَه كي ينعم الله على البشرية جمعاء بنعمتي الأمن والسلام "، دليلٌ ملموس واعتراف منه شخصيًا، ومن مشيخته دينيًا ممثلاً عن شرائح كبيرة من أتباعه، بما تقوم به الرئاسة المسيحية التي يمثلها رأس الكنيسة الكاثوليكية التي تضمّ غالبية أتباع المسيحية في العالم، والتي تشترك مع أتباع كنائس شقيقة غيرها في نشر ثقافة السلام والحوار والتفاهم والدعوة إلى احترام الآخر المختلف ضمن مبادئ الرجاء والمحبة ووفقًا لإيمان ومعتقدات كلّ طرف.

   إنّ احترام الإسلام والمسلمين من المؤمنين والقابلين بوعد الله من عباده الصادقين من غير "المكلّسين" والمبَطَّنين بنيران الحقد والكراهية والفتنة، يُعدّ لهم هذا من "أعمال البر"، وتواصلاً مع الرسالة المحمدية المكمّلة لرسالة المسيح (عيسى) بحسب آراء علمائهم وفقهائهم. فقد ورد اسم المسيح (عيسى) في خمسة وعشرين آية قرآنية، ومنها هذه الاية: "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ..." (سورة النساء،171). فيما يرى آخرون أنّ مثل هذه العلامة هي "أبلغُ ردٍّ على مثيري الفتن" والمتصيّدين بالماء العكر من ضعاف النفوس ومن المفسدين في الحياة من الذين لا همّ لهم سوى تكفير الآخر من خلال نفث السموم في خطابات تحريضية، جلّ فحواها وقوامها نقل صورة خاطئة عن المبادئ التي يحتكمون إليها بحسب تأويلات وتفاسير خاطئة أو تلك التي عفا عليها الزمن. فهذه، إنْ كانت صالحة في ظرف زماني ومكانيّ معيّن، فهي لم تعدْ كذلك في الزمن الراهن لأسباب كثيرة حتّمتها الحاجة لخلق أجواء إيجابية من العيش المشترك والتآزر والتآخي والجهاد الصالح والبحث عن طرق ووسائل جديدة ومبتكرة في محبة الله والتقرّب من رحمته اللامتناهية ومن خلقه الذين منحهم نفحة الحياة وجعلهم في خانة حُسنِه وجمال صورته واحترامه.

   سوف لن أتطرّق إلى احتفالات أعياد الميلاد وبدء السنة الميلادية الجديدة في أنحاء العالم، بل سأقتصر في وصفي وتقديري الإيجابي على بلدنا الجريح، عراق الخير والحضارات والتسامح والعيش التقليدي المشترك. فالكرنفالات الكثيرة المتميزة التي عشناها منذ يوم تحرير المدن والبلدات السليبة التي عاث بها طغيان "دولة الخرافة" لأكثر من ثلاث سنوات، وما لحقها من انتصارات هذا العام بحيث قوّضت ودحرت قدرات التنظيم الإرهابي الهائلة، كانت تلك بالتأكيد من علامات الزمن الحاضر، زمن التعايش وعودة اللحمة الوطنية وصحوة الضمائر الميتة أو النائمة التي انتفضت مؤخرًا مطالبة بالقضاء على كلّ أشكال الفساد المستشري في مفاصل الدولة ودوائرها، كما في الشارع وفي السوق وفي المنازل وفي بيوت الله من دون تمييز ولا استثناء، وبمحاسبة الفاسدين والمفسدين.

    أليس فخرًا ونصرًا وطنيًا أن تشهد مدينة كربلاء المقدسة ولأول مرّة، نصب أكبر شجرة ميلاد في أحد المنتجعات بطول ثمانية أمتار مزيّنة بزينة جميلة جذبت الأنظار، تضامنًا مع الشركاء في الوطن من المسيحيين؟ وهذه كانت مناسبة أخرى، لتحفيز الجهات ذات العلاقة بالتراث والآثار في المدينة، كي يُثار موضوع إعادة النظر بالآثار المسيحية التي تغطّي معظم أراضي ومواقع هذه المنطقة المهمة التي كانت قبل قرون خلت من مآثر البلاد، تشعُّ بأنوار المسيحية وبإمارة خاصة بها في الحيرة من آل المنذر، ومنها "كنيسة الأقيصر" التي لا تزال آثارها باقية دليلاً على وجود مسيحيّ راسخ في المنطقة.

    موقف مماثل من المستشار الخاص للرئاسة الإيرانية بشخص السيد علي يونسي، في رسالة تهنئة الميلاد الموجهة إلى رأس الكنيسة الكلدانية، وفيها كلمات مفعمة بالأمل والرجاء والمحبة التي أتى بها مولود مغارة بيت لحم، هديةً إلى العالم أجمع، والتي جاء فيها: "عالم اليوم متعطش الى التفاهم والصلح والسلام والاعتدال والعقلانية، وإن أساس هذه المفاهيم هو في الأديان التوحيدية المبنية على كرامة الانسان والعدالة الاجتماعية... الاعتقاد بكرامة الانسان هو أساس احترام حقوق الانسان والانسجام بين الشعوب." وخلص للقول: "إن رسالة كافة الاديان التوحيدية هي أن نواجه العنف والتعاليم الشيطانية بالتفاهم والمداراة والمروة. تعليم الاديان السماوية هو أن نقبل الاخر ونسعى للعيش بالسلام والمحبة، وللوصول الى هذا الهدف، علينا أن نشجع الحوار بين الأديان لكي نبتعد عن التطرف وكل أنواع العنف."

    في طيات هذه الرسالة، نقرأ ما يصبو إليه كلّ ذوي الإرادة الطيبة والنوايا الصالحة المتطلعة نحو بناء الإنسان وتقويم الفكر وتعزيز النسيج الاجتماعي بين المجتمعات على اختلاف أديانها ومعتقداتها وأعراقها. هكذا تُبنى الحياة وتُعاش في تفاصيلها وألوانها وواقعها من دون الهروب ممّا تتطلبه حياة البشرية، كلّ ضمن المحيط الذي تتواجد فيه وتعيشُه.

   مثل هذا التعاطف المتميز في أعياد المسيحيين وما رافقه من كرنفالات السنة الجديدة، تشيرُ حتمًا إلى الحاجة بانتقال البلاد وأهلها من واقع الفساد والتخلّف والإحباط إلى حالة مغايرة من الصلاح والتطوّر والتشجيع والتحفيز نحو الأفضل في كلّ مناحي الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدمية وحتى الشخصية من خلال التحاور وامتزاج الآراء والتفاهم بالمودة والرحمة التي تؤمن بها الأديان التوحيدية جميعًا على السواء. من هنا، يكون ميلاد المسيح "عيدًا للرجاء، وبه نقبل البشرى السارة لمحبة الله لنا"، مهما اختلفت أديانُنا وتنوعت التفاسير والتأويلات.

   وهذا دليلٌ على أنّ ما هو مشترك بين شركاء الوطن والمجتمعات الشرقية بالذات، أكثر بكثير ممّا يفرّق. وعلى ضوء هذا المفهوم، تتعزّز الشراكة ويترسخ أساس العيش المشترك الذي يبني السلم الأهلي ويؤسّس لبناء مجتمع مدني متسامح، منفتح، متكاتف، متآزر، ينتخي في السرّاء والضرّاء.

    أمّا الردّ المسيحي، فقد أفصح عنه البطريرك لويس ساكو، رأس الكنيسة الكلدانية التي تشكّل غالبية المسيحيين في البلاد، في كلمة بمناسبة حلول العام الميلادي الجديد 2018، يوم الإثنين 1 كانون الثاني: "إنّ ما لمسناه نحن ‏المسيحيين، في أعياد رأس السنة من التعاطف معنا، بعد كل الذي أوجعَنا، جاء معزيًا ومشجعًا وشاحنًا للآمال ورافضًا للتيارات المتطرفة التي تُكَفِّر المسيحي والصابئي واليزيدي، مستهدفة إفراغ البلد منهم". ‏وهو يشارك سواه من المهنّئين ومن المحتفلين من أشقائه أتباع الكنائس الشقيقة الأخرى في بلده ومن خارجه، بحقيقة ضرورة العودة إلى الفكر المنفتح الذي يقبل بالآخَر المختلف عنه في الدين والعقيدة والعرق، والحالم ببناء نظام مدني معتدل يحترم القيم الانسانية والدينية، ويتعامل مع المواطنين كافة على قاعدة المساواة والشراكة في الوطن، وليس وفق أشكال أخرى تفرّق وتميّز في نوعية المواطنة وفي الانتماء للأرض التي هي ملك الجميع وللجميع. ومثل هذا الأمل والطموح الواقعي لن يكون قابل التحقيق إلاّ بخطوات جادّة وصريحة وشجاعة، وبتنازلات حقيقية لصالح مصلحة الوطن العليا، ومنها: "تجريم الخطاب الديني التحريضي، وتنقية المناهج الدراسية من كل ما يزرع الفتنة ويحث على العنف ويفتت النسيج الوطني، والقضاء على آفة الفساد المستشري"، وفقًا لدستورٍ عادل وقوانين مجتمعية لا تخرج عن الأطر الإنسانية التي وردت في شرعة حقوق الإنسان التي حظيت باهتمام وموافقة جميع بلدان العالم. وهي ذات التعاليم والآمال التي لا تخرج عن صميم تعاليم الأديان التوحيدية، السماوية منها وغير السماوية في موضوع الرحمة والألفة والمحبة بين الأمم والشعوب.

    ليكن العام الجديد 2018، أجدى من سابقه في زرع الألفة والمحبة والتفاهم بين الأمم والشعوب عبر الحوار وتبادل الرأي والانفتاح على الآخر المختلف. وفي العراق، بعد أن تحطمت شوكة الفتنة الكبيرة للتنظيم الإرهابي المسلح الذي فتك العرض وجفّف الضرع وكسّر الحجر وفتّت البشر بلا رحمة، ننتظر الإعلان الحقيقيّ للنصر المؤزّر بإعمار البلاد والعباد معًا، بنية تحتية وفكرًا وطنيًا ونسيجًا اجتماعيًا، تماهيًا مع سابق عهده المزدهر وانتماءً لحضارته وإرثه وعظمته التاريخية. أمّا الانتصارات الكبيرة التي حققتها الأجهزة الأمنية الوطنية والشعبية المتعاونة مع جهد الدولة، فهي عنوان آخر لأملٍ ببداية حقبة وطنية جديدة تؤسس لبناء دولة مدنية قوية متقدمة، تأخذ في الاعتبار قبل كلّ شيء، بذل المساعي لعودة النازحين والمهجَّرين إلى ديارهم. كما ينبغي أن تصاحب هذه الجهود، حملة وطنية جادة لإعمار البلدات والمدن التي أصابها الخراب والدمار من جراء العمليات العسكرية المدمّرة، وإعادة الخدمات الآدمية والإنسانية والبلدية إلى حالتها الطبيعية، ونشر الوعي المجتمعيّ الجامع، وترسيخ الوحدة الوطنية، وإشاعة مبدأ التسامح، وانتهاج الفكر المعتدل المنفتح الذي يبني ولا يدمّر، يوحّد ولا يفرّق، يعدلُ ولا يميّز.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة